نعرف ياسمينة رضا من نصوصها المسرحية الشهيرة التي قدّمت في أهم المسارح الدولية، وأبرزها «أحاديث بعد دفنٍ» و»فن». لكن موهبة هذه الكاتبة الإيرانية - الفرنسية تتجاوز ميدان المسرح لتطاول الرواية، كما يتجلّى ذلك في نصَّها «على زلاّجة أرثر شوبنهاور» أو في روايتها الجديدة الصادرة عن دار «فلاماريون» الباريسية تحت عنوان «طوبى للسُعداء» وتُشكّل قمة ما كتبته رضا في الميدانَين على السواء. عنوان الرواية يستحضر تطويبات القديس متى الثمانية في الإنجيل ولكن أيضاً البيتَين الأخيرَين من قصيدة بورخيس «أجزاء من إنجيلٍ منتحَل»: «طوبى للمحبوبين والمحبّين والقادرين على الاستغناء عن الحب / طوبى للسُعداء»؛ بيتان نجدهما في مقدّمة نصّها كمفتتح له، علماً أن هذا الأخير لا علاقة له بالودعاء أو صانعي السلام بل بشخصيات معذّبة تتصارع مع الحياة وتعبّر عن مكنونات نفسها بلا مواربة، بيأسٍ أو هستيريا، ضمن مونولوغات تتوالى وتتجاوب في ما بينها. هنالك روبير وأوديل توسكانو اللذان نشاهدهما في بداية الرواية يتشاجران في متجر حول نوع الجبنة الذي يرغب كلّ منهما في شرائه؛ مسألة تافهة تعكس حالة الرابط الذي يجمعهما والوهن والملل اللذين يعانيان منهما بعد سنوات من العيش المشترك، قبل أن يظهر لنا بعد ذلك التواطؤ والرقة في علاقتهما الطقسية. هنالك أيضاً راوول وإيلين بيرنيش المولعَان بلعبة «البريدج» واللذان يتشاجران بدورهما أمامنا أثناء مشاركتهما بمباراة في هذه اللعبة بسبب عدم فهم إيلين استراتيجية زوجها في اللعب. وهنالك الزوجان هوتنر اللذان يعيشان علاقة حبّ إندماجية لكنهما يعانيان من هذيان ابنهما الذي يعتقد بأنه المغنية الكندية سيلين ديون ويتهندم ويتكلّم مثلها ويوزّع تواقيع باسمها في المصحّ، من دون أن ننسى العجوز أرنست بلو الذي بالكاد يستمع إلى ما تقوله زوجته جانيت له ويتململ حين ترفض رغبته في أن تُرمَّد جثّته بعد وفاته. ولا تبدو الشخصيات المعزولة في هذه الرواية في حال أفضل، فالطبيب المثلي فيليب شملي نراه في حالة سعي ثابت ومؤلم خلف مواساةٍ وكآبة غرامية رقيقة وأصيلة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مهندسة الديكور شانتال أودوين التي تحب أن تكون عشيقة الأقوياء وتعبّر مراراً عن قرفها من خبث المتزوّجين ووقاحتهم، علماً أنها تحلم في قرارة نفسها في الزواج. وحتى العشّاق الأكثر تحرّراً يتملّكهم قلق العزلة والخوف من تخلّي عشّاقهم عنهم، كعشيق أوديل الصحافي ريمي غروب. باختصار، روايةٌ رائعة تسمح لرضا بتسليط ضوء كاشف على موضوعٍ يهمّها إلى أبعد حد، أي ذلك التخثّر أو الانعصار الذي لا مفرّ منه لمَن يريد الارتباط عاطفياً بشخصٍ آخر. من هنا خيارها للشكل المعتمَد فيها، أي فصول على شكل مونولوغات يحضر في كلٍّ منها راو مختلف، رجلٌ أو امرأة، شاب أو عجوز، لسرد قصّته أو التحدّث عن نفسه من خلال علاقته بالآخر. روايةٌ بلا حبكة أو سيناريو أو عنصر إثارة ما عدا تتابُع تلك القصص القصيرة التي تتشابك وتقول عدم فهمنا الثابت لأشياء الحياة والحبّ، لحفنة السنين التي نقضيها في هذا العالم قبل أن نفهم، بعد فوات الأوان، أننا لم نفهم أي شيء. هنا تكمن مهارة رضا، في قدرتها، رواية بعد أخرى، ونصٍّ مسرحي بعد آخر، على ملاحقة أو قول تلك الاحتكاكات بين البشر، قصص الحب التي تستهلك وقودها وتنزلق على قشور العادة، ذلك الجسد الذي ينقصف وينحلّ، وتلك الشيخوخة التي نرفضها. وفي هذا السياق تقول إحدى الشخصيّات النسائية في نصّها الأخير: «العواطف قاتلة. أريد أن تتقدّم الحياة وأن ينمحي كل شيء مع كل خطوة»، بينما يختصر العجوز أرنست حياته على النحو الآتي:»كائنان يعيشان جنباً إلى جنب وكل يوم تبعدهما مخيّلتهما بشكلٍ نهائي أكثر فأكثر. تشيّد النساء داخلهنّ قصوراً مسحورة نُحنّط داخلها في مكانٍ ما، من دون علمنا. كل شيء سوء فهم «. وفعلاً، صفحة بعد صفحة، تزرع الحياة الحزن والخراب وتفكّك الأجساد وتفتك بالنفوس مستخدمةً كل الحيَل الممكنة لتفرقة شخصيات الرواية وتفخيخ تحالفاتها ورميها في أحضان العزلة والضياع. وقد تبدو جُمَل الرواية بسيطة وقليلة الأهمية في حال تفحّصنا كل واحدة منها على حدة. لكنّ حركتها ودقّتها المخيفة تمنحان النصّ كل قوة دفْعِه وقدرته على خلق الانفعال. وما يصلح لوصف جُمَل الرواية ينطبق أيضاً على أصوات شخصيّاتها المختلفة التي تتجاوب ضمن عملية إصداءٍ حاذقة وثاقبة، بينما تسمح طريقة توزيعها بتنويع وجهات النظر حول كل شخصية فتبدو لنا، من فصلٍ إلى آخر، ، مصارِعة أو مستسلمة، قليلة الحزم أو معزولة، سافلة أو صديقة يتعذّر استبدالها، وبالتالي دائماً مختلفة وفي الوقت ذاته مشابهة لنفسها. وتدريجاً، تشكّل هذه الشخصيات تحت أنظارنا فرقةً بالمعنى المسرحي أو حتى العسكري للكلمة؛ فرقة مختلطة، صلبة وهشّة في آنٍ واحد، يحاول كل فرد فيها تأدية دوره والإفلات بجلده. ففي حقل المعركة المُهلِك هذا، الرهان ليس على الربح أو الانتصار بل على السقوط بكرامة وبلا وهم، بعينين مفتوحتَين. ولمواجهة قدرها، لا تملك هذه الشخصيات سوى سلاحٍ واحد: الضحك، نعم الضحك كالوضعية الحرّة الوحيدة المتبقّية ولكن أيضاً كرشقٍ ناري أو انفجار عنفوانٍ غايته إبطاء التقدّم الحتمي للعدو الذي يتربّص بها ولا ضرورة لتسميته. وهو ما يذكّرنا بجملةٍ لشكسبير يقول فيها: «أن نستخرج ضحكةً متوحّشة، ضحكةً محرَّرة، من حنجرة الموت».