فيما تتحالف الدول الكبرى ودول عدة في العالم لمواجهة المجموعات المتطرفة في العراق وسورية ولبنان التي تسفك الدماء باسم الإسلام مشوّهة قيمه ومبادئه، جاء افتتاح «متحف آغا خان» للفنون الإسلامية في تورونتو، ليفتح نافذة فريدة ومضيئة تعرّف الغرب بدين تسامح وحضارة إنسانية. المبادرة التي رعتها وتبنتها شبكة «آغا خان» للتنمية، تثير الجدل حول قضايا لطالما رافقت الثقافة الإسلامية والحفاظ على كنوزها الموزعة على متاحف الغرب ومعارضه وقصوره، أو التائهة بين بلدان الكولونياليات الأوروبية أو المدمّرة بفعل الحروب الضروس التي مرّت ببلاد الإسلام. أولى هذه القضايا هي مصالحة جيل الشباب الإسلامي مع الماضي ومعرفة تاريخه القديم، وربما إيجاد قيمة تاريخية - مادية يفتخر بها. فغالبية الشباب في منطقتنا مهووسة بالتغريب وتقليد الغرب، ومندهشة بالفن المعاصر كأنه «كنز مفقود»، من دون البحث عن تراثهم والحفاظ عليه. المجتمع يصارع الماضي، وقد بنت التحوّلات السياسية السابقة جدراناً بين المسلمين وبين تاريخهم وحضاراتهم الغنية والمتنوعة بالفنون. ولو أننا اليوم نشهد عودة إلى التاريخ وموجة استعادة الماضي الغابر من خلال بعض الباحثين المختصين أو من خلال حركة سوق شراء القطع الفنية الإسلامية المقدّرة في المتاحف وصالات العرض الغربية أكثر من أي مكان في العالم الإسلامي. تركيا مثلاً، هي تعيد اليوم التفكير في استعادة ماضيها العثماني ولو بأطر محدّدة، من خلال برامج ثقافية وافتتاح معارض مختصة بالفنون العثمانية. ويفتح «متحف آغا حان» جدلاً آخر حول اعتماد مصطلح «الفن الإسلامي» أو «فن الحضارات الإسلامية» الذي أثير خلال مؤتمر صحافي عقد في المتحف أخيراً، وشدّد خلاله المؤرخون والقائمون، على أن متحف تورونتو مختص بفنون الحضارات الإسلامية ويميّز بينها من خلال عرض المجموعة الخاصة لعائلة «آغا خان»، والتي تفوق الألف قطعة تمتد من الساحل الليبيري إلى الصين بين القرن التاسع والقرن العشرين. كما يعيد افتتاح هذا الصرح المختص بالحضارات الإسلامية، النظر في لغة القرآن، الغائبة تماماً عن الملصقات الترويجية وعن التعريف بالقطع الفنية والحقبات التي تنتمي إليها وماهية المنطقة الجغرافية التي وجدت فيها ونوع الحكم في كل حقبة واهتمام السلاطين وغيرها. وتغيب لغة الضاد عن دليل الزائر الإلكتروني الذي وضّب في آلة «ipod» في شكل تاريخي دقيق يجعل مستخدمه في قلب الزمان والمكان اللذين وجدت فيهما هذه القطعة الأثرية أو تلك، وخريطة البلاد التي أنتجتها وميزات الحضارة التي تنتمي إليها، وخرائط مفصلة عن كل الحضارات الإسلامية منذ فجر الإسلام. ليست العربية وحدها التي تغيب عن المتحف الذي على زائره دفع 20 دولاراً كندياً (للبالغين) للدخول إليه، بل كل اللغات التي تحدّث ويتحدّث بها المسلمون من الهندية إلى الأوردو إلى الكينية والفرنسية وغيرها. الإنكليزية فقط هي الحاضرة، علماً أن كندا تعتمد اللغتين الإنكليزية والفرنسية في مؤسساتها الرسمية. لكن القائمين على المتحف يعدون بمزيد من التطورات، من ضمنها اللغات. المتحف الجميل الذي صمّمه المعماري الياباني فوميهيكو ماكي المهووس بدمج أنماط وحضارات معمارية في نمط واحد، يمتد على مساحة كبيرة بين 6 و8 هكتارات، ويتميّز بانعكاسات الضوء الطبيعي الذي ينير غالبية قاعاته. و «النور» الذي شكّل مصدر إلهام رافق أديان العالم وحضاراته منذ فجر التاريخ، كان محور تصميمات ماكي المبدعة للمتحف. ويرتكز تصميم المتحف على فناء داخلي، يسمح سقفه المفتوح بتسرّب النور الطبيعي عبر جدران زجاجية مزدوجة يبلغ ارتفاعها 13 متراً، زوّدت بمشربيات. أما الأرضية، فتتضمّن فسيفساء ثلاثيّة اللون. والمتحف لا يتميّز فقط بقطعه النادرة ومبناه البديع ولا بحدائقه الخلابة التي صمّمها اللبناني فلاديمير دجوروفيك وتذكّر بحدائق قصر الحمراء الأندلسي في غرناطة، إنما بناسه ومتطوّعيه المفعمين بروح النخوة والمساعدة من أجل إظهار «التسامح والمحبة في الإسلام والحوار البنّاء بين البشر»، كما يقول راحيم. أينما تلتفتْ ترَ هؤلاء المتطوعين من الطائفة الإسماعيلية يتحركون في أرجاء المتحف وفي المركز الإسماعيلي الثقافي اللذين تفصل بينهما حدائق فلاديمير دجوروفيك وافتتحهما رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر وآغا خان الأسبوع الماضي. تعتلي الابتسامة وجوه أبناء هذه الطائفة (متحدرون من أصول أفريقية وباكستانية وأفغانية وتركية وإيرانية وعربية ويحملون الجنسيات الكندية) الشغوفة بالفنون والمنفتحة على كل الطوائف والمذاهب والديانات. لا يكفّون عن طلب المساعدة والاهتمام بضيوف المتحف والمركز، عارضين خدماتهم. كل منهم يعمل في اختصاص بعيد جداً من الفن، لكنهم يعتبرون هذا المكان «بيتهم» والمتحف والمركز كأبنائهم، كما يقول علي. ومؤسسة وشبكة آغا خان للتنمية التي أسست هذين الصرحين الثقافيين، تعتمد عليهم كمتطوعين نشطين. يبدو أن هذا المكان الجميل ليس البيت الذي ينعمون بدفئه، بل هو «وطن بديل» لطائفة منفتحة على الآخر وتُنشد الحوار. إسلام في حضارات مختلفة تقول ربى كنعان المختصة بتاريخ الحضارات الإسلامية، الأستاذة الجامعية في جامعة «يورك» في تورونتو، المسؤولة عن قسم التعليم وبرامج البحوث في متحف «آغا خان»، إن «الفن الإسلامي كمصطلح هو عبارة أكاديمية تطوّرت من طريق معارض الفن إبان العصر الكولونيالي الأوروبي». وتضيف في حديث إلى «الحياة»: «في البدايات كانت تصنّف الفنون في هذه المنطقة وفق جغرافيتها (تركية، عربية، إيرانية...) في المتاحف والمعارض العالمية. والمعرض الأول الذي نظّم تحت مسمى الفن الإسلامي، كان في بداية القرن العشرين (حوالى 1910)، وفيه طرح مفهوم جديد مؤداه أن كل المعطيات الثقافية التي تنتج من بلدان فيها حضارات إسلامية جميعها متساوية ومتشابهة! فصار هناك مفهوم جديد هو الفن الإسلامي الذي منع أي نوع من التمييز بين ما هو هندي أو عربي أو إيراني وهكذا. وهذا المصطلح يمحو التميّز للحضارات الإسلامية ويضعها كلها في خانة واحدة، وهو ما لا يعكس الصورة الدقيقة لتاريخ الفنون في هذه الحضارات». وتشدد كنعان على أن «إدوارد سعيد انتقد في كتاب الاستشراق، مسمى الفن الإسلامي والحضارة أو الثقافة الإسلامية»، ووضع مفهوماً غيّر المنظور للعالم الإسلامي وعلاقة الغرب بالعالم الإسلامي. مفهوم إدوارد سعيد أن الغرب خلال الفترة الكولونيالية اخترع مسمى «الفن الإسلامي» ليُسهّل هضم الإطار المعرفي عن حضارات مختلفة من الشرق والإعداد للتبعية. وهو انتقد فكرة «فن إسلامي»، لأنها تلغي خصوصية كل حضارة. والإسلام كدين يبرز دائماً معه، إضافة إلى الحسّ الديني الموجود عند الأفراد، إطار قِيم وعادات وأخلاق وطروحات تتغلغل فيها الحضارة والثقافة. هناك إطار متشابه واستمرارية ما بين الحضارات التي فيها مسلمون. وفي الوقت نفسه، هناك تميّز. ومصطلح الفن الإسلامي يلغي هذا التميّز». إذاً، «نحن لا نتحفظ عن مصطلح الفن الإسلامي في إطاره المعرفي، بل في إطار عدم التمييز بين الفنون التي خرجت من بلاد فارس عن التي خرجت من غرب أفريقيا، مثلاً»، تقول كنعان. وهنا تعطي أمثلة لتوضيح الصورة قائلة: «في متحفنا، يبدو جلياً أن مخطوطات القرآن الكريم مثلاً، تختلف بزخرفاتها وخطّها ومنمنماتها بين حضارة وأخرى ومنطقة وأخرى. كل مخطوطة هي عبارة عن ناتج حضاري في منطقة معينة. المنمنمات حول الآيات القرآنية في الصين في القرن التاسع عشر، تختلف عن المنمنمات في بغداد في القرن العاشر. لذا، كل الجامعات التي تدرّس «الدراسات الإسلامية» ومثلها المتاحف العالمية، تحاول تثبيت خصوصية للحضارات المختلفة ضمن الإطار الإسلامي».