بعد فوزه بنسبة ضئيلة، وقف بنيامين نتانياهو ليحيي أنصاره يوم 2 حزيران (يونيو) 1996، ويخاطبهم قائلاً: «في سلم أولوياتي، تبقى وحدة المجتمع الإسرائيلي هي الخيار الأول. وأنا أعتبر هذا الخيار قاعدة أساسية في الحكم». ثم انتقل ليتحدث عن سياسته الخارجية ويقول: «إن المؤشرات الواضحة في سياستي الخارجية تنطلق من معارضة إنشاء دولة فلسطينية، ومن رفض مبدأ حق العودة، ومن مقاومة أي قرار يدعو إلى تفكيك المستوطنات وإزالتها. كما أنني أحتفظ بحق استخدام أجهزتنا الأمنية لصدّ كل التهديدات التي تواجهنا من أراضي السلطة الفلسطينية». ولما عرض النقطة الأخيرة من أجندة سياسته الخارجية، أعرب عن استعداده لاستئناف محادثات الانسحاب من مرتفعات الجولان، ولكن من دون شروط مسبقة، ومن دون التخلي عن سيادة إسرائيل. وعندما كرر في الكنيست هذه المواقف السلبية، حرص على تجاهل اتفاقي أوسلو والقاهرة وكل ما يقيده بالمواثيق المشتركة. وفي ختام كلمته، أكد أن جيل الاستقلال -أي جيله- سيحافظ على الخط السياسي الذي رسمه الجيل المؤسس. زعيم المعارضة في حينه، شمعون بيريز، حذره من عواقب نشوة الفوز، ثم انتقد طروحاته قائلاً: «يا صديقي رئيس الوزراء، إن السياسة التي رسمتها لا يمكن أن تمثل القرار الحكيم لإحياء مشروع السلام مع الفلسطينيين والعرب. إنه قرار متهور خيَّب آمال محازبيك ومعارضيك معاً». بعد مرور أكثر من 16 سنة على إعلان تلك المواقف السلبية، وقف نتانياهو هذا الأسبوع ليكررها من موقع الخائف على مستقبله السياسي عقب التحول العميق الذي أفرزه تحالفه مع أفيغدور ليبرمان، وهو تحالف غير مثمر، بحيث إن عدد مقاعد الحزبين هبط من 42 مقعداً إلى 31 مقعداً، وإن الليكود خسر خمسة مقاعد من حصيلة الانتخابات الماضية. إضافة إلى هذا التحول، فإن الخريطة الحزبية لدورة 2013 بدّلت مواقع اللاعبين الأساسيين، وجعلت من حزب يائير لبيد الحزبَ الثاني في الكنيست، بعد فوزه ب 19 مقعداً، علماً أن يائير أسس حزبه «يش عتيد» -ومعناها مستقبل- منذ سنة فقط، مع شعارات بسيطة لا تتعدى عبارة «حزب الوسط للطبقة الوسطى». ومع أنه حصل على غالبية أصوات الطبقة الاجتماعية الوسطى، إلا أن يائير يلتقي في عنصريته السياسية مع خط المتطرفين، من أمثال أرييل شارون ونتانياهو. وقد ورث هذا النهج عن والديه الصهيونيين يوسف (تومي) لبيد والوالدة شولاميت، وهما من القلة التي هاجرت من صربيا إلى إسرائيل. ومثلما فعل نجله يائير، بدأ الأب يوسف عمله في التلفزيون والإذاعة، إلى أن اختاره شارون وزيراً في آخر حكومة شكلها قبل مرضه. بينما انصرفت الوالدة إلى تأليف الكتب عن الهجرات اليهودية. عشية الانتخابات، دُعيَ عرب إسرائيل إلى المشاركة بكثافة، وقد حرصوا على التجاوب مع هذا النداء، لأنهم يريدون عرض قضاياهم الحيوية داخل الكنيست. كما يريدون أيضاً إبراز حجمهم السياسي من خلال أحزابهم: الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة (4 مقاعد) والتجمع الوطني الديموقراطي (3 مقاعد) والقائمة العربية الموحدة للتغيير (5 مقاعد). ومع أن نواب هذه الأحزاب يحملون الجنسية الإسرائيلية، إلا أن حكومات دولة اليهود تتعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثانية. وفي أكثر الحالات تمتنع هذه الحكومات عن الاعتراف بأعدادهم الصحيحة (مليون وثلاثمئة ألف نسمة)، وبأنهم يشكلون ما نسبته عشرون في المئة من كامل عدد السكان. زعيم الحزب الثاني يائير لبيد دشن دخوله إلى الكنيست بخلاف عميق مع حنين زعبي، فقد أعلن بلهجة مكابرة استفزازية رفضه التعاون معها ومع كتلتها «التجمع الوطني الديموقراطي.» وبسبب اللهجة العنصرية التي عبَّر بها هذا النجم السياسي الجديد، هاجمته صحيفة «هآرتس» بافتتاحية حملت توقيع كل المحررين. ومما جاء في مضمون الافتتاحية: «لقد انتُخِبَت حنين زعبي في الكنيست الإسرائيلي بطريقة قانونية شرعية، وبأصوات إسرائيليين صوتوا لقائمتها. والمؤسف أن لبيد تصرف معها كما يتصرف أعضاء اليمين المتطرف، الذين يحلو لهم نزع الشرعية عن النواب العرب. إن المجتمع يشم رائحة عنصرية كريهة من شخصية أوحت لنا عكس ذلك». والملاحظ أن لبيد كشف عن وجهه الحقيقي فور إعلان فوزه، وقال انه يدعو إلى إحياء عملية السلام مع الفلسطينيين المتوقفة منذ أكثر من سنتين. ولكنه أتبع هذا التصريح بإعلان رفضه التنازل عن شبر واحد من القدسالشرقيةالمحتلة. ومعلوم أن المفاوضات توقفت بسبب رفض إسرائيل تجميد عملية الاستيطان وتحديد مرجعية لعملية السلام. وهذا ما طالب به الفلسطينيون، في حين اعتبره نتانياهو شروطاً مسبقة. وقبل أن يتوجه إلى المنطقة وزير الخارجية الأميركي الجديد السناتور جون كيري، أعرب نتانياهو عن استعداده للقاء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في رام الله أو القدس بهدف استئناف المفاوضات، وإنما من دون شروط مسبقة. ورأى المراقبون في هذا التصريح بوادر خدعة مكررة، لأن وزارة الإسكان لم تتوقف يوماً واحداً عن مواصلة بناء المستوطنات، وهذا معناه تقييد تحركات أبو مازن قبل وصول الوزير كيري إلى الشرق الأوسط. وذكرت واشنطن أنه من المتوقع قيام خَلَف الوزيرة كلينتون بزيارة للمنطقة في منتصف شباط (فبراير) تشمل فلسطين وإسرائيل والسعودية ومصر والأردن. ومن الطبيعي أن يحاول خلال زيارته حثّ نتانياهو ومحمود عباس على استئناف عملية السلام المتوقفة منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2010، أي منذ استقال الموفد الخاص السناتور جورج ميتشل وتعيين ديفيد هيل مكانه. ويبدو أن السلطة الفلسطينية تستعد حالياً لإرسال وفد إلى واشنطن مزود بتصور عربي من أجل تحريك عملية السلام المجمدة. وكانت بريطانيا بلسان وزير خارجيتها وليام هيغ، قد أعربت عن تخوفها من إضاعة فرصة التسوية بسبب توسع إسرائيل في نشاطها الاستيطاني. وقال الوزير في كلمة أمام البرلمان، إن سياسة إسرائيل التوسعية ستنسف مشروع تطبيق حل الدولتين. وكان مساعد أمين عام الجامعة العربية لشؤون فلسطين، السفير محمد صبيح، قد أشار إلى ورقة لجنة المتابعة العربية التي سيحملها الوفد إلى واشنطن وسائر العواصم المعنية، أي الورقة التي صاغتها اللجنة في اجتماع الدوحة الأخير. قبل الانتقال إلى هذه المرحلة، حاول محمود عباس الاتفاق مع خالد مشعل (حماس) على الحد الأدنى من مبادئ التفاوض كي يقنع الجانب الإسرائيلي بأنه يتكلم باسم كل الفلسطينيين، وهذا يقتضي بالضرورة إجراء مصالحة بين «حماس» «فتح.» ومعلوم أن السعودية كانت أول دولة عربية جربت هذه المحاولة سنة 2007 حول ما عُرِف ب «اتفاق مكة». ولما حصل التباعد، تولت مصر مهمة المصالحة سنة 2009 في عهد الرئيس السابق حسني مبارك. كذلك أجرى الرئيس محمد مرسي محاولة أخرى في تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 2012. وفي كل مرة، كان التباين بين «حماس» و «فتح» يمنع اتفاقهما على مبدأ التفاوض وعلى الحلول السياسية. والسبب أن «حماس» ترفض التعاون مع العدو ولو أدى ذلك إلى قيام دولة فلسطينية. وهي ترى أن طرد إسرائيل المحتلة من كل أرض فلسطين هو واجب ديني قبل أن يكون واجباً قومياً. بينما لا يرى محمود عباس أي مانع في إدارة مفاوضات مع إسرائيل، شرط قبولها بالمبادرة العربية المدعمة بضمانة أميركية. وحول هذا الموقف، يقول نبيل أبو ردينة، الناطق باسم عباس: «نحن على استعداد للتفاوض مع أي حكومة إسرائيلية تتبنى مبدأ الدولتين لشعبين، كما توقف بناء المستوطنات، وتقبل قرار الجمعية العامة بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية تتمتع بصفة مراقب في الأممالمتحدة». يقول شمعون بيريز إن الزمن غير محايد، بل هو يعمل لصالح الذي يستغله، وعليه يرى أن المطلوب من الوزير الأميركي كيري الانتقال إلى المنطقة، التي زارها عدة مرات، بهدف إحياء جهود السلام. الرئيس باراك اوباما ينتظر بعض الإشارات الإيجابية على المسارين الفلسطيني-الفلسطيني والإسرائيلي-الإسرائيلي قبل أن يشجع كيري على السفر إلى الشرق الأوسط. ذلك أن نتانياهو منشغل حالياً بتشكيل حكومة ائتلافية موسعة قادرة على مواجهة تحديات إيران وغضب الإدارة الأميركية. في حين يعمل العاهل الأردني على تذليل العقبات التي تمنع تحقيق المصالحة الفلسطينية بين حركتي «حماس» و «فتح». وهذا ما طلبه من خالد مشعل، خوفاً من استغلال إسرائيل للخلاف الفلسطيني-الفلسطيني، بحيث تدّعي أن المفاوض الشرعي غير موجود. والمؤسف أن أصداء هذا الخلاف ترددت في المحافل الدولية، الأمر الذي دفع رئيس تونس، المنصف المرزوقي، إلى تأجيل زيارته قطاع غزة إلى نهاية شهر آذار (مارس) المقبل. وكان القيادي في «حماس» صلاح البردويل قد اتهم السلطة الفلسطينية بممارسة ضغوط سياسية لمحاولة منع زيارة المرزوقي تحت ذريعة امتلاكها وحدها الشرعية الفلسطينية. وكانت السلطة وجهت انتقادات لزيارة رئيس الحكومة الماليزية محمد عبدالرزاق لقطاع غزة هذا الأسبوع، على اعتبار أنها تمت في ظل الانقسام الفلسطيني. ومن هذا الخلاف ينطلق السؤال عن أسبابه الحقيقية؟ يقول «الفتحيون» إن محمود عباس يدعو إلى إجراء انتخابات للقيادة الفلسطينية في الضفة وغزة معاً. وعلى ضوء النتائج يتقرر توزيع المناصب والمسؤوليات بين الحركتين. في حين تطالب «حماس» بضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية كخطوة أولى، مخافة أن يستغل عباس نتائج الانتخابات ليهمّش دورها، كذلك تخشى «فتح» أن تأتي النتائج لصالح «حماس»، على اعتبار أن الجمهور الفلسطيني تعب من حكاية السلام الموعود منذ ستين سنة. وبناء على اختباراته السابقة، فهو يحبِّذ أسلوب الانتفاضات، ويرفض دولة مفككة منتشرة على 25 في المئة من أرض فلسطين. قادة «حماس» لا يمانعون في حصر مسؤولية التفاوض بشخص محمود عباس، شرط أن تخضع نتائجها لاستفتاء الشعب. ويُستدَل من النشاط السياسي الذي شهدته الدوحة في الأيام الماضية، على أن الرئيس عباس أرسل جبريل الرجوب للاجتماع بخالد مشعل والاتفاق معه على تطبيق بنود الاتفاق الأمني. وتتضمن هذه البنود عملية دمج أجهزة الأمن، وإنشاء قيادة موحدة يشارك فيها رجال «فتح» و «حماس» و «الجهاد الإسلامي.» ويقول الحياديون من الفلسطينيين إن خلاف الحركتين يشير الى تنافس غير مبرر، لأن المفاوضات لم تُستأنَف... ولأن نتانياهو لم يحسم خياراته. خصوصاً أن الرئيس أوباما يهمه حالياً الاتفاق مع الرئيس فلاديمير بوتين على مستقبل سورية ودول الربيع العربي، وبلدان أفريقيا الشمالية. ومعنى هذا أن القضية الفلسطينية مرشحة لأن توضع على الرف أربع سنوات إضافية، بانتظار انطلاق الصواريخ التي تنتظر كلمة السر من طهران ودمشق. * كاتب وصحافي لبناني