أدلى الدكتور رياض طبارة بشهادته عن «أميركا والحريات - نظرة تاريخية» (عنوان كتابه الصادر حديثاً عن دار رياض الريس للنشر) بصفته طالباً (دكتوراه في الاقتصاد من جامعة فاندربيلت الأميركية)، ثم استاذاً جامعياً في جامعة بركلي، وسفيراً سابقاً في واشنطن، ومتابعاً ومتتبعاً لآخر إصدارات الكتب منها وعنها (تتميز هوامش الكتاب بغنى المراجع التي استند إليها وتراوحت ما بين السياسي والثقافي والأدبي باللغة الانكليزية الأم) وقارئاً بين سطور المعلقين السياسيين في كبريات صحفها (واشنطن بوست ونيويورك تايمز ونيوزويك الخ) ومدققاً في أرقام اقتصاداتها ومؤشرات صعودها وتراجعها، وأيضاً في التمحيص في معنى نتائج استطلاعات الرأي فيها، وتوجهات شرائحها الاجتماعية (مدير مركز مدما للدراسات والمشاريع الانمائية). وبناء على ما ورد يمكن لشهادة طبارة ان تؤكد الموّثق من قراءته لتاريخ الحريات في أميركا ماضياً وحاضراً. الأبرز في الكتاب هو حضور طبارة الكاتب المثقف وغير المنخدع بالصور اللمّاعة عن ذاك التاريخ وذينك المجتمع الاميركي (مليء بالوقائع التي تشير الى طبيعة العنف في هذا المجتمع) وأيضاً غير العدائي لمجرد العداء، إذ عرض لمراحل الإنتهاكات وأيضاً للقوانين التي تم تعديلها تباعاً وأتاحت الإعتذار والتعويض والمساواة لمواطنيها باستثناء قوانين مرحلة بوش الإبن وخلفه أوباما التي لا تزال قائمة؟ (يقول إن غالبية ضحاياها من المسلمين) ما يطرح سؤالاً حول معايير إطلاق التهم الفورية وعدم صدقية ما يرافقها من تحقيقات وتهم وعنف وإن تغلفت لاحقاً بإعتذار أو تعويض؟ عايش طبارة «عصر الحريات الذهبي» في أميركا، وآمن بحرية التعبير، فأهدى كتابه المذكور الى أخيه الراحل، المسرحي المبدع والساخر بجرأة وسيم طبارة. في الكتاب ستة فصول يحكي فيها صعود الحريات وهبوطها في الحياة السياسة الاميركية الداخلية والخارجية، وخمسة مقالات نشرت في صحف لبنانية في مرحلة ما بعد 11 ايلول (سبتمبر) استبق فيها وقائع سياسية حصلت لاحقاً، إضافة إلى ملاحق عن وثيقة إستقلال الولاياتالمتحدة الاميركية في 4 تموز (يوليو) 1776 ونص دستور الولاياتالمتحدة ووثيقة الحقوق والتعديلات التي جرت عليها، الى المراجع وفهرسي الاعلام والاماكن، وكأنها من باب إن نفعت الذكرى...(عدد صفحات الكتاب 398 صفحة). يمسك طبارة بقضية الحريات في المجتمع الاميركي مع أول مستعمرة، الى ظهور مدرسة جديدة من المؤرخين الأميركيين «لمراجعة التاريخ الأميركي والصورة الأكثر سوداوية فيه والأكثر واقعية». في العام 1630 وصل القس الانكليزي جون وينثروب لبناء أول مستعمرة مستعيناً بكلام السيد المسيح عن «المدينة على جبل»، لكنه لم يكن يتكلم سوى عن البيض إذ إستبعد الكاثوليك والهنود الحمر والكويكرز وتم إعدام بعضهم، وإن كانت إبادة الهنود الحمر بحجة تمدينهم! (وصفها الكاتب الاميركي دايفيد ستاندرد بالهولوكست الاميركي والاضخم إبادة في تاريخ العالم») والإستيلاء على أراضيهم المأهولة ب 500 قبيلة، وقتلهم جماعياً وتهجيرهم، وسجنهم في محميات، ودثر لغاتهم وفولكلورهم ونشر الاوبئة بينهم لتقليل أعدادهم (توزيع مناديل مغمسة بداء الجدري عليهم) الخ من حكايات أوسعها التاريخ بمروياته عن تلك الإبادة التي استمرت ضد السود بأشكال الرق والعبودية والتمييز العنصري (يذكر ان الإعدام الشعبي طريقة ابتكرها الأميركيون وإنهم أجروا أبحاثاً علمية في القرن العشرين لإثبات تخلف السود الذكائي، وقد نال صاحب البحث العالم الفيزيائي وليام شوكلي جائزة نوبل في مادته!)، كاشفاً أن الرئيس أبراهام لنكولن «محرر العبيد» كان صاحب فكرة نقلهم الى باناما، مستخدماً بحقهم أوصافاً تثير الإشمئزاز، وصولاً الى الرئيس ويلسون عام 1913 وإطلاقه المبادئ ال 14 المعروفة للسلام العالمي، لكنه «أعاد مكتسبات السود في الإندماج الى نقطة الصفر» (يقول عنه إنه كان عنصرياً، والرئيس الوحيد الذي يحمل شهادة دكتوراه ونال جائزة نوبل للسلام!). مع سطوع نجم مارتن لوثر كينغ حاز السود على حقوقهم في مرحلة الستينات، إلا أن «فورات الخوف» كما يسميها طبارة طبعت المجتمع الاميركي بردود فعل عنفية، فكانت حملات متتالية ضد مخاطر الماسونيين، والكاثوليك الدينية، والصينيين، وغارات وزير العدل بالمر (1918)، ثم ضد الأميركيين من أصول إلمانية ويابانية في الحرب العالمية الثانية (يقول وصل العداء للالمان بإسقاط موسيقى فاغنر من فرقة شيكاغو السمفونية لصالح برليوز الفرنسي)! الى حين وصول أيزنهاور الى سدة الرئاسة وهو من أصل الماني. أما اليابانيون «فكانت معاملتهم اسوأ بكثير» وقد صدر عنها أول كتاب عام 1976 بعنوان «سنوات العار»، لتحل بعدها النقمة الهستيرية ضد من وصفوهم بالشيوعيين الاميركيين الحمر بخاصة في عهد الرئيس ترومان (1947) الذي أصدر قراراً عرف ب «أمر الولاء» تم بموجبه التحقيق مع ملايين الموظفين ما أسس لما عرف لاحقاً بمرحلة السناتور جوزف مكارثي ولاأخلاقياته المخابراتية (منه اشتقت كلمة المكارثية بما هي غوغائية ومتهورة). العصر الذهبي للحريات إنه العصر الذي درس فيه طبارة في أميركا ويمتد من 1960 الى 2001 «اذ بدأ النقاش الحاد في الأوساط الأميركية حول واجب الدولة الإعتذار عن ممارساتها الماضية المجافية للحريات»، فاعتذر الكونغرس العام 1988 من اليابانيين الأميركيين ومن الهنود الحمر بقرار وقعه أوباما العام 2010، ولم يتصل بهم شخصياً للإعتذار فأثار استياءهم، كما اعتذر في رسالة الى رئيس غواتيمالا عن تجارب مخبرية قامت بها الحكومة الأميركية في الأربعينات على المساجين والمختلين عقلياً وتلويثهم بداء السفلس لمعرفة فاعلية دواء البينيسيلين)، واعتذر مجلس الشيوخ العام 2011 من الصينيين، ومن الأفارقة الأميركيين ومن سكان لاهاي الأصليين، واعتذر بوش الابن في السينغال عن العبودية. بوش الابن ومرحلة الإبتعاد عن الحريات وقع حادث 11 ايلول كالصاعقة على الأميركيين، لكن نتائجها كانت كوارثية على الآخرين تحت عنوان مكافحة الإرهاب فكان احتلال العراق وافغانستان، وإصدار قوانين لمكافحة الارهاب لا تزال سارية تجاوزت الحدود القانونية والانسانية، (تصفها رايس في مذكراتها بالمبالغة) في داخل اميركا وعالمياً، سواء مع قانون باتريوت الذي اعتبر أي شخص «عدواً مقاتلاً» وبالتالي يسمح باعتقاله وإبقائه مسجوناً مدى الحياة ولا يحق له الدفاع عن نفسه أمام المحاكم، وفي إنشاء وزارة أمن الدولة (تحقيق نشرته الواشنطن بوست عن أميركا السرية العليا)، إضافة الى المراقبة والتنصت وإجبار الأطباء على تسليم ملفات مرضاهم، والتفتيش بالتعري في المطارات، والدخول خلسة الى البيوت، وصولاً الى سرده لأنواع التعذيب في سجون غوانتانامو وأبو غريب، وباغرام في كابول (يذكر طبارة أن قوى تحالف الشمال في افغانستان وشت بمئات المقاتلين مقابل 5 آلاف دولار للعنصر من طالبان و20 ألفاً عن العنصر من القاعدة دون تهمة) وأيضاً في تبادل المعتقلين مع دول أخرى للتحقيق معهم، ومن بينها مصر وإسرائيل والأردن وليبيا وموريتانيا والمغرب وقطر والسعودية وسورية والصومال واليمن وأوزبكستان...). وإذ ينعى طبارة غياب العصر الذهبي للحريات، فإنه يلفت إلى غياب الخلاف بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري حول مسألة الحريات حالياً «... فأكمل أوباما طريق بوش الإبن وجعل الموقت من القوانين الجائرة دائماً ووسّع مداه». (يتحدث عن ثلثاء الارهاب كنموذج). عرض طبارة لتاريخ الحريات في أميركا بعقل بارد وقراءة ثاقبة، فختم مؤكداً أن «أولوية السياسة التقليدية الأميركية حماية أمن اسرائيل وحماية النفط، وإبعاد كل ما يتعارض مع هاتين الأولويتين»، مستعيراً ما ورد في أسطورة للهنود الحمر حول ذئبي الخير والشر الموجودين داخل الإنسان وإن الغلبة تكون لمن يتغذى أكثر... ومن جلال الدين الرومي نستعير قوله الشعري: ما العدل؟ ري الأشجار وما الظلم؟ ري الأشواك! * صحافية لبنانية.