صحيح القول أنه حلم تحقّق أخيراً، بل لعل اختيار الجملة الشهيرة للزعيم الأفريقي- الأميركي مارتن لوثر كينغ «لدي حلم»، كبداية لهذا الإنجاز يتوافق مع دلالاته العميقة أيضاً. منذ سنوات طويلة يحلم العلماء بأن «يكتبوا» معلومات على الحمض الوراثي النووي DNA في الانسان، ما يجعله جهاز كومبيوتر توضع فيه ملايين المعلومات، بل بلايينها وتريليوناتها. ليس في الأمر مبالغة. إذ تعتمد تركيبة الجينوم على تسلسلسلات من نوعين من القواعد، ما يجعله شبيهاً بالبيانو الذي يتتالى فيه نوعان من المفاتيح: أبيض وأسود. كم من «المعلومات» الموسيقية صُنعت بفضل تسلسل النقرات على نوعي مفاتيح البيانو؟ كم من المعلومات يحملها الجينوم. مثلاً، لنفكر بكمية المعلومات التي تلزم لصنع جسم الإنسان بأعضائه وأنسجته وخلاياه، وتفاعلاتها وتداخلاتها وتطوّرها الزمني. إذاً، لنفكر أيضاً بكمية المعلومات التي يمكن تحميلها على هذه «الآلة» الجينية اللامتناهية الأبعاد؟ بهذه الطريقة يفكر العلماء المهتمون بما يسمّى «المعلوماتية البيولوجية» («بيوأنفورماتيكس» Bio Informatics). أخيراً، تحقّق الحلم. ربما ليس كليّاً، لكنه أنجز خطوة أولى وحاسمة أيضاً. وتكلّلت جهود تحقيق حلم ال«بيوأنفورماتيكس» بفضل علماء من بريطانيا يعملون في «المعهد الأوروبي للمعلوماتية الحيوية» European Bioinformatics Institute، بالتعاون مع شركة أميركية متخصّصة في الحمض الوراثي، هي «آجيلانت تكنولوجيز» Aiglent Technologies، ومقرّها كاليفورنيا. واستطاع البريطانيان نك غولدمان ويوان بيرني، المدير المساعد للمعهد، كتابة معلومات رقمية على الحمض الوراثي، وهو «بصمة وراثية» تعطي كل فرد سماته المميّزة. ويساعد هذا الإنجاز في إيجاد حل لمشكلة تخزين الكميات الهائلة من البيانات التي تتراكم يومياً بصورة انفجارية. وتساهم هذه الطريقة أيضاً في حماية البيانات من الهجمات الرقمية والفيروسات الإلكترونية التي باتت هاجساً أمنياً مؤرقاً في عوالم المعلوماتية والانترنت. وفي أول كتابة للبشر على الجينوم، وُضعت بيانات رقمية متنوّعة ضمّت قصائد شكسبير ال154 (في صيغة PDF)، وصورة للمعهد، والدراسة العلمية الشهيرة عن اكتشاف تركيبة الحمض الوراثي، وملف صوتي من 26 ثانية من خطاب مارتن لوثر كينغ لعام 1963 «لدي حلم»، ووثيقة عن انجاز غولدمان وإيربي بالكتابة على الجينوم. ونشرت الدراسة في مجلة «نايتشر». ولاحظ واضعاها أن علماء ال«بيوأنفورماتيكس» يقدّرون أن الجينوم يستطيع أن يُخزّن ما يزيد على 100 مليون ساعة من الفيديو ذي الجودة العالية، مع قدرته على الاحتفاظ بها ربما لألف سنة أو أكثر. وقال غولدمان: «وجدت معلومات وراثية على الجينوم المستخرج من عظام الماموث الذي انقرض قبل مئات آلاف السنوات. ربما ينطبق هذا الأمر أيضاً على المعلومات الرقمية التي تُكتب على الجينوم». وعموماً، يعتقد العلماء أن الجينوم يستطيع تخزين بيانات رقمية يصل حجمها الى ثلاثة زيتابايت أي 3000 بليون بايت. واستطاع غولدمان وإيربي كتابة معلومات رقمية على حمض وراثي تركيبي، ما يجعل الخطوة المقبلة تتمثّل في الكتابة مباشرة على الحمض الوراثي للكائن الحيّ، كما تُقرّب العلماء من إيجاد قراءة ل»قراءة» البيانات الرقمية المُخزّنة على الجينوم.