لطالما تساءلت متعجباً: لماذا لا يجد صوت المثقف عند العوام من الناس صدى يُذكر؟ ما سر نفور العوام من أفكار المثقف وتوجهاته وطموحاته، على رغم ما يلقاه الأخير من متاعب ومصاعب لكي يوقظ مجتمعه من سباته، ويعرفه بحاله، ويبصره بحقوقه؟ أنا لا أتحدث عن موقف المكونين السياسي والديني من المثقف، فالعلاقة بين الاثنين يغلب عليها الشقاق أكثر من الوفاق، فالمثقف الحقيقي، المتجرد من مطامعه والمتحرر من مخاوفه، هو من يعري ويفضح التواطؤ المشبوه بين السياسي والديني، الذي لم يجلب غير إهدار حقوق المجتمع وتدجينه وتغييب وعيه وتخديره. بالرجوع إلى العلاقة الملتبسة بين المثقف والمجتمع، فإن في مقالة «مكارثيتنا: الاختلاف على ماهية المتهم»، للدكتور عبدالسلام الوايل، تصويراً عميقاً ودقيقاً للنظرة المجتمعية المتشككة من المثقف. يقول الوايل: «... يُنظر للمثقفين بوصفهم طبقة متعالية متعجرفة، تحمل قيماً وأفكاراً تختلف عن القيم السائدة في المجتمع وأفكاره، بل تبدو أقرب لقيم الغرباء والأعداء، إنهم آخَر، ليسوا جزءًا منَّا... وربما يشكلون خطراً علينا»... هل مازلتم تذكرون ما أثارته تغريدة «صالح الشيحي» الذائعة الصيت من ضجيج وعجيج إلكتروني، انحاز في مجمله ضد أبناء الوطن من المثقفين والمثقفات، باعتبارهم فاسدين ومفسدين وأعداءً للوطن والدين؟ ألا تتطابق نعوت مقالة «الوايل» مع ما جادت به قرائح من اصطفوا إلى جوار «الشيحي»، لا حباً فيه بل كرهاً في هذا «الآخر»؟! هل أضيف على ما قال الوايل شيئاً؟ هناك طائفة من الناس تسم المثقف بالمعقد! نعم، لقد سمعت هذه الكلمة أكثر من مرة، مازلت أذكر جيداً ما قاله أحد زملاء العمل بعد أن رجعت من «أم الدنيا»، سألني وهو يتلهف لسماع مغامرات نسائية ساخنة: هاه... ماذا فعلت في القاهرة؟ رحت، ولفرط سذاجتي وبلاهتي، أحدثه عن الكتب والمكتبات، وعن القلعة والمتاحف والأهرامات، سدّد إليّ صاحبي نظرة ذات معنى، ثم قال في تبرم: يا أخي أنت معقد! ويبقى السؤال عالقاً: لماذا يرجم الناس المثقف بالحجارة مع أنه يناضل من أجل رخائهم وكرامتهم وحرياتهم ومساواتهم؟! لقد أصاب الدكتور علي الرباعي كبد الحقيقة في مقالته «وهم خطورة المثقف»، حين أحال مأساة المثقف إلى التحالف السياسي – الديني والقائم على تجييش وتهييج العامة ضد المثقف بدعوى المروق من الدين... ما من مثقف، مهما انحاز إلى الناس المغلوبة والمقهورة، سيجد لنفسه حضوراً ولكلماته قبولاً مادامت صورته شوهت دينياً. دعني أروي لك قصة طريفة حول توظيف الدين لدغدغة غرائز العامة وتأليبهم ضد المثقف، في العشرينات من القرن الماضي، وعندما رشح المفكر المصري أحمد لطفي السيد نفسه لعضوية البرلمان، تفتق ذهن منافسه عن حيلة جهنمية، وهي أن يطوف القرى والكفور ليشيع بين الفلاحين البسطاء أن خصمه «ديموقراطي»! وبما أن هؤلاء السذج المساكين لا يعرفون للكلمة معنى فقد حسبوها وكأنها رجس من عمل الشيطان، وعندما قَدِم إليهم أحمد لطفي، سألوه: هل صحيح أنك كما يشاع ديموقراطي؟ أجاب بكل هدوء واطمئنان: نعم، أنا ديموقراطي، وما كاد ينهي جملته حتى اندلعت معركة حامية الوطيس، كما تشاهدونها في الأفلام المصرية! تعرض المثقف عبر التاريخ إلى صنوف من التعذيب والتقتيل على يد أجهزة السلطة القمعوية، وغالباً بتأليب من المؤسسة الدينية، وسط سكوت العوام وتخاذلهم، وأحياناً احتفائهم وتهليلهم، وكما قال «الرباعي» في مقالته، فإن دماء المثقفين مكتوبة على امتداد ضفاف التاريخ، ابتداءً بأبي ذر الغفاري، ومروراً بعمرو المقصوص، والجعد بن درهم، وغيلان الدمشقي، والمقفع، والحلاج، والسهروردي، والنسيمي، وليس انتهاءً بمحمود محمد طه، وفرج فودة، ونجيب محفوظ، إنها حقاً لمأساة أن يكون المرء مثقفاً وسط مجتمعات رضيت بالجهل والظلام والاستعباد والاستبداد. وصدق أبو الطيب المتنبي حين قال: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم. [email protected]