طُعِّمت المقالة الماضية ببعض الأقوال للحكيم جبران خليل جبران، والظاهر أنها استهوت عدداً من القراء فطالبوا بقراءة شيء إضافي مما جادت به قريحة غريب الروح جبران. وقبل أن أفعل، أنوّه بأن كتابات جبران متوافرة للقارئ العربي، وما عليه سوى تكبّد عناء شرائها -إنِ اعتُبر عناءً-، ثم تخصيص ساعة يومية مبدئياً للقراءة والتمعّن ومحاولة الربط والاستنتاج، فمهما حوت مقالاتنا من آثار الأدباء والفلاسفة فليست كمن ينهل من المنبع الأصلي نفسه. والآن، ماذا لدينا عن جبران؟ قوله: «لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، ولا تقرأ لأنصاف الموهوبين، ولا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت... لا تختر نصف حلّ، ولا تقف في منتصف الحقيقة، ولا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل»... فماذا عن عبارته «لا تختر نصف حلّ»؟ أقول: إن هذا هو بلاؤنا الأعظم! وهو ارتكابنا جنح الحلول السطحية والموقتة، لذلك تعود علينا النتائج بأسوأ مما كان عليه الوضع قبل وصفة الاستهتار: «حلها على الماشي». وهي طبيعة عربية عصرية مستفحلة، تكون أحياناً وليدة الإيقاع السريع للوقت والجو العام، وفي أحيان أُخَر تكون نابعة من طبع أصيل في الشخصية، ولك أن تستوعب عندها لماذا تؤول الأمور إلى التدهور إن كانت هذه النوعية من الشخصيات في موقع المسؤولية. ولأن كل امرئ مسؤول عن شيء، أو أشياء، ومن مجموع هذه المسؤوليات يتكون نسيج الوطن الأسري والإداري، فلك أن تتأمَّل في أحوال اختيارنا أنصاف الحلول، فالمتألم حقاً هو من يرى الحل الجذري لكنه عاجز عنه، إمّا لأنه لا يملك ناصية القرار، أو غير مخوّل بالتدخل، أو لا يستطيع تحقيق هذا الحل لاختلاف الأسباب. وليس هناك أصعب على روح ترغب في المزيد لكنها مسجونة في جسد لم يعد يرغب في هذا المزيد، لأنه لا يستطيعه! وهذا هو الحاصل عملياً مع أعداد كبيرة من البشر تكون في البدايات ممتلئة حماسةً، وتجد الحلول في هذا وذاك، ثم... ومع مرور الوقت وتراكم الحلول الموقتة من أنصاف المسؤولين، بنتائجها المخزية، يتسرب الفتور إلى الروح المتحمسة صاحبة الحل الجذري، وفي رواية، ربما تجدها في حزب الأنصاف بعد حين. هذا التحليل لا يمسّ الجالس على كرسيه الوثير في مكتبه وحسب، بل إنه حديث لا يبرِّئ أحداً من أصحاب أنصاف الحلول أياً كان موقعه، وأول المواقع البيت والعائلة، فماذا عن الأب في تعامله مع إشكالات أبنائه في البيت والمدرسة والشارع؟ ماذا عن الأم في تسيير شؤون مملكتها؟ بل ماذا عنها في أبسط أمور النظافة؟ فهل تعتني ببيتها وتنسى النظر إلى الساعة، لأنها في حال جرد للقديم وتلميع للجديد كما ينبغي للجرد والتلميع أن يكونا؟ نحن لا نظن أن أصغر الأشياء لا تنعكس على أكبرها، فالطفل الذي تربى على الأصول وعلى الأمور كما يجب أن تكون، لا بد أن ينتفع بهذه السياسة التي تشرّبها في مراحل نموه، وكل مسؤول مهمل يرجع إلى غرفته الأولى وأدواته الشخصية وأول 20 عاماً من عمره في بيت أسرته. ولا نعني -كالعادة في الملاحظة- الحالات الفردية التي يصيبها رد فعل عكسي فتبدو على خلاف بيتها، لمبالغة ربما في أسلوب التربية والهوس الذي يصيب الأبوين في الربط والضبط، فهذه الاستثناءات لا قياس عليها. ثم هبْ أن امرأً مولعاً بالحل الموغل في عمق المسائل، هل تعتقد أننا سنصل معه؟ إنها في الواقع بداية المشكلات، ذلك أن هذا الكائن «المُتعِب» في نظر المحيطين به، حين يذهب إلى أبعد نقطة لينطلق منها في مشروع الحل، سيصطدم بعقبات عدة لا تريد لحله أن يرى النور، لأنه بهذا الحل إنما يفضح الحلول الوهمية، وبما أن الحل -عادةً- يستدعي في طريقه موافقة أطراف أخرى مسؤولة عن تحديات أخرى، فستفاجأ بأن كثيراً من هذه الأطراف هي من أصحاب أنصاف الحلول. فالمسألة إذاً لم تقف عند حدود إيجاد الإنسان ذي الحل الكامل، بل هي متشابكة مع مصالح أخرى تعود إلى جماعات ترى في طريقة «حلها من جذرها» انتقاصاً من حلولها، وتشويشاً يطاول سمعتها، وهؤلاء «الأنصاف» لن يدَعوها تمرّ كاملة. [email protected]