انقسم النادي السياسي اللبناني إزاء مشروع القانون الخاص بالانتخابات النيابية، وقد أراد واضعوه إسباغ اللون الأرثوذكسي عليه. الحال أن من تلقَّفهُ وعمل على تسويقه (مع غلاظة هذا القول كونه يجعل من القانون سلعة) تحت جناح بكركي وعباءة البطريركية المارونية. لربما فاته غربة الصيغة المطروحة عن معنى الأرثوذكسية، وضعف انتمائها إلى المغزى الأصيل. وهذا ما يدفعنا إلى مزيد من التنقيب عن الدوافع، وتعقّب الغاية الأصلية الكامنة وراء الزجّ بالهرطقة في مجال سياسي بامتياز. نسارع إلى القول إن الأرثوذكسية براء من تهمة التوظيف المتمادي لعنوانها في غير محلِّهِ، ولو طُلب من الطائفة الاستفتاء لما أقرّت نسْبَ المشروع إليها أو تبنَّت منطلقاته. فكيف لأبنائها، ومنهم طليعة العلمانيين القائلين بالتواصل بوحدة المجتمع تاريخياً، التماهي مع مخلوق مذهبي، والانقياد وراء ترسيمة مخالفة قناعاتهم وتموضعهم الوطني، لا سيما أن مصدر الإيحاء مطعون في مرجعيته، والظنّ ملحوظ في استنسابيته وفي خروج مفاده وخواصه إلى العلن في ظرف تاريخي محدّد، ليس ببعيد من مأساة سورية وأزمة نظامها المستفحلة. بهذا، لا عُذر يأتي مثابة المحلّ لأصحابه، ولا ينطبق على نقده ورفضه القاطع التذرّع بأحكام من مثل أن بعض الظن إثم، لأنه عارٍ من المقدمات المعنوية المقبولة، وهو يطيح في نهاية المطاف، العرفَ والثابت دستورياً في آن، مشتبهاً في قاعدة خير هذا بشرّ ذاك، على سبيل النفي المغلوط للمساوئ المقارنة، والفكاك الآني انتهازياً على حساب المبدئي كيفما تقلّبت الأحداث وبدت الضرورات. إن أبسط معايير النزاهة تدعو إلى الاحتراز من مشروع تقسيمي الطابع، قصير النظر، ستقود محصلته، في المدى المنظور، إلى هزَّات ارتدادية ومطالب فئوية؛ مكتومة راهناً، يستحيل إغفالها وإنكار مفاعيلها لناحية التوازن الداخلي الهشّ. دليلنا على هذا المنحى الخطر، مسارعة الثنائي المكوّن من «حزب الله» وأمل إلى تعضيد موقف الحليف المُدلَّل (التيار الوطني الحرّ)، علماً أن السؤال البدهي يتجاوز تحفظ حركة أمل لاحقاً، وهو غير مستبعد وقد يُفاجئ بعملية التفافيّة، ويتناول مسألة التضامن في السرّاء والضرّاء، على قاعدة تحديد الأهم عبر تصليب الموقف المؤيّد لمحور طهران - دمشق. ففي قراءة «موضوعية» لما هو آت عطفاً على تصدّع أركان نظام الأسد، وبالأخص وضع الساحة اللبنانية بعد ذاك، أضحى غطاء العماد عون المسيحي حاجة لا استغناء عنها عند ما هو آت من تحولات، تعزّز رصيد «حزب الله» المتآكل، وتحيي الممانعة على وجه عام، فيما تقابلها أريحية خيرية بلبوس طرف شيعي لا شأن له بالمجاملة، بل يرى فيها سنداً للسيطرة الأحادية ضمن بيئته، ومنفذاً نحو تشذيب الشجرة السنّية واقتطاع ما أمكن منها وفق النظام النسبي. هنا جوهر الحماسة، وهنا مكمَنْ القطبة المخفية تحت ستار من الدخان. يسعى «حزب الله» إلى التحوّط الوقائي، وله في ذلك، أسباب وجيهة تخدم منظومته في إطار حِلف الأقليات، وتفرط مسرحياً في الدفاع عن مسيحية وظيفية تابعة، شرطها الاستقواء بسلاحه على الخصوم لتسجيل النقاط والإلهاء عن الملفات الأساسية المقوِّضة للنهوض. فقد درج التيار الوطني الحر على حرب الطواحين، وهو لا يتوانى عن استخدام الهبات والإيفاء بدوره كاملاً في خضم التطورات العاصفة بالإقليم السائرة على ما لا يشتهيه المشغّل الإيراني الأساس. ولا يمكن فصل عناق الثامن من آذار لمشروع مذهبي صرف باسم المسيحيين يُعتقد بوفرة ثماره النيابية، عن التهديد الدائم بعدم إجراء الانتخابات في موعدها الدستوري، ناهيك بالتغطية التي يمنحها مجّاناً لتوليفات مذهبية مقبلة ويفتح باب الاجتهاد واسعاً في شأنها ردّاً للجميل، ودفعاً للالتباس، وتجمع التوقعات على أن «حزب الله» المواكب للمُستجدّات غير السارة في المحيط، ملتزم إيقاف عجلة المصاعب التي تلوح في الأفق، والتهيؤ لامتصاص، أو أقلّهُ استيعاب المحمول السلبي المرتقب. لذلك، فهو يعمل حثيثاً على إبقاء مواقع النفوذ في المجتمع وعلى صعيد السلطة، ولن يعدم وسيلة لاستمرار محاصرة الحياة السياسية في لبنان، وصولاً إلى تجميد تداول السلطة بكل الوسائل الممكنة، إن لم يجد سبيلاً إلى كسب السباق الانتخابي كما يشتهيه عبر قانون مفصّل على مقاسه، يفي بغايات حلفائه ويبقي على أكثرية تتحكم بالبلاد والعباد. ومن النافل أنه قد وجد ضالته، على ما يعتقد، من دون مجهود يُذكر، في الفذلكة الأرثوذكسية، تاركاً لسطوة سلاحه انتزاع الهيمنة المطلقة ضمن الطائفة الشيعية وإبعاد المنافسين عن حلبة الانتخابات. بين المكوِّنات الحزبية الممثلة في البرلمان الحالي، يُفهم انحياز بعضها المأزوم «وجودياً» إلى قانون ماضوي فاقد الأهلية الدستورية وفق المعمول به من محدّدات وثيقة الطائف. إنما لبنان ليس على هذا الوجه على رغم التردِّي الحاصل، ولم يكتب له الانحدار إلى هذا الدرك المعيب، المنافي لقواعد الانصهار والانعتاق من مخلَّفات العصبيات والهويات القاتلة. الحاصل، إذا ما أقرَّ القانون «الأرثوذكسي»، وهو أمرٌ مستبعد ومستغرب في الحقل السياسي، هو استبدال الطائفية بالطوائف، وتغليب مفهوم تمييزي بين أبناء الوطن، يُغيِّب المواطن ويقضي على المنهج الديموقراطي السليم. فمهما تضرّع الفريق السيادي إلى 14 آذار، فلا مناص من الإقرار بأن انضمام القوات اللبنانية إلى مريديه، وإن بالالتحاق خشية مزايدة الفريق العوني، أم للمناورة، شكّل مفاجأة مؤلمة لامست خيبة الأمل لدى شطر واسع من المدنيين المجدّدين. لسان حال المعاصرة ينادي بالنقيض، وبعض الرصيد المعنوي يُصْرف ولا يتبيّن المرء جدواه ومنافع الاقتباس من الرجعيين والطائفيين المتحجّرين. كذلك الحيرة بالغة، وسيعوز الحركة الاستقلالية الكثير لمعالجة الندوب والعودة إلى جادة الصواب بالمعنى الحداثي والمساواتي بسواء. كان من المستحسن والمفيد تجنب هذه الزلّات رأفةً بسُمعة دعاة السيادة وبوحدتهم، كما بالتراث الأرثوذكسي العميق. يقول المثل الشائع: «غلطة الشاطر بألف غلطة»، وقصارى مطلب اللبنانيين عودة الفرقاء كافة عن خطأ جرح كرامتهم في الصميم. وما زالت نافذة العودة عنه ممكنة إرادياً للذين تورّطوا، لبرهان عدم القصد وحسن النيّة والشفافية، لئلا يودي المجلس الدستوري بالقانون المقترح إلى محفظة الإبطال، ويُسجِّل التاريخ علامة سلبية تطاول الذين ضلُّوا الطريق. لغير هؤلاء التغنِّي بالردّة والتقوقع المذهبي والتصويب القبلي. وفي هكذا حقل، لا وجوب للمنافسة ولا منفعة يُعوَّل عليها ذوو الحكمة العاملون على التغيير.