اعتاد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتانياهو، تصدير أزماته الداخلية إلى الخارج، وفعلها هذه المرة، عندما ارتبط اسمه بواحدة من أكبر الفضائح التي شهدتها المؤسسة الإسرائيلية الرسمية، بل أهم مؤسسة في إسرائيل على الإطلاق: الجيش ووزارة الدفاع، فالقضية التي كشفت قبل سنة ونصف السنة، وأكدها الآن بقوة تقرير مراقب الدولة وتعرف باسم «فضيحة هاربز»، وهو اسم أحد أبطالها الذي يُعتبر صديقاً لزوجة رئيس أركان الجيش الأسبق غابي اشكنازي، تدور حول مؤامرات أُديرت في رئاسة هيئة أركان الجيش الإسرائيلي ووزارة الدفاع بين كبار الجنرالات والصحافيين وكبار الموظفين، ولعب نتانياهو دوراً في تأجيجها من بعيد. وقرر نتانياهو أن يصوب سهامه إلى الخارج، في أول ظهور له بعد يوم من التقرير ليضرب بحجر واحد اكثر من هدف. فاعتبر السلاح النووي الإيراني والكيماوي السوري الخطر الحقيقي، ليس فقط على أمن إسرائيل والمنطقة، بل على السلام في العالم بأسره. وانتقد المجتمع الدولي لصمته إزاء هذا الخطر، متفاخراً بدعم الولاياتالمتحدة للحملة الإسرائيلية في مواجهته، وداعياً دول العالم إلى مساندة إسرائيل في حربها . أما الهدف الثالث الذي حاول نتانياهو إصابته، فهو مواصلة دعم اليمين له، بإعلانه أن البناء الاستيطاني في القدس هو واحد من أسمى أهداف سياسته، على عكس اتهامات المجتمع الدولي بأنه سبب رئيسي لإحباط عملية السلام. لم يكتف نتانياهو بذلك، فظهر بعد يومين من نشر التقرير في جامعة آرئيل، الجامعة التي أقيمت في كبرى مستوطنات الضفة وأثارت إقامتها معارضة دولية، ليكرر موقفه الذي حمل في طياته جانباً من سياسة التحذير والتخويف للإسرائيليين، وأعلن أن مستوطنة آرئيل «ستبقى إلى الأبد تحت السيادة الإسرائيلية ويجب أن نوضح للعالم أنه لا يواجه أي خطر من إقامة هذه الجامعة أو من أعمال البناء التي تجريها إسرائيل في القدس، إنما الخطر الذي يواجهه هو من المشروع النووي الإيراني والأسلحة الكيماوية التي بحوزة سورية»، قال نتانياهو. تقرير مراقب الدولة هو الضربة الثانية لنتانياهو في اقل من أسبوع بعد تصريحات رئيس الشاباك السابق يوفال ديسكن، التي حذر فيها الإسرائيليين من خطورة وجود حكومة في إسرائيل بقيادة نتانياهو، قائلاً: «إن حكومة كهذه تشكل خطراً على مستقبل إسرائيل»، وهي تصريحات جاءت مناقضة تماماً لتلك التي يطلقها نتانياهو للدفاع عن سياسة حكومته وإقناع الإسرائيليين بأنه الوحيد القادر على الحفاظ على أمنهم وعلى ما يسميها الإسرائيليون «ارض إسرائيل الكبرى» وعلى القدس العاصمة الأبدية للدولة العبرية. وقد وصلت تصريحات ديسكن ذروة التحريض على نتانياهو والمس به، عندما راح يصف جلسة حساسة عقدت في مقر الاستخبارات لبحث الملف النووي الإيراني وحضرها نتانياهو وباراك وليبرمان وقادة أجهزة الأمن، فقد نقل ديسكن أدق الأوصاف لهذه الجلسة، عندما قال: «كانوا يدخنون السيجار في حضور الحلقة كلها. نهض وزير الدفاع واتجه إلى المشرب في تلك الغرفة، وهي غرفة ضيافة لإحدى المنظمات الاستخبارية، وبدأ يصب لنفسه بين آن وآخر كأساً صغيرة من الشراب من إحدى الزجاجات التي كانت موضوعة هناك. في منتصف نقاش حساس جداً ومهم، كان يقف حاملا الكأس مع السيجار في يده أمام ضباط من الجيش الإسرائيلي وقادة من الاستخبارات. «انها صورة تساوي أكثر من ألف كلمة» قال ديسكن. أصناف من القادة وتابع حديثه مصيباً بسهامه نتانياهو وباراك، عدويه اللدودين، كما أظهر تقرير مراقب الدولة. فقال: «رأيت أصنافاً مختلفة من القادة. رأيت رابين وبيرس وبيبي (يقصد بنيامين نتانياهو) وباراك وشارون واولمرت وبيبي مرة أخرى رئيساً للحكومة وباراك وزيراً للدفاع. أستطيع أن أقول إنه وُجد قادة كان عندي شعور دائم بأنهم يفضلون المصلحة القومية على كل شيء في لحظة الحسم حينما تقف مصلحة الدولة ازاء مصلحتهم الشخصية. أستطيع أن أقول هذا عن رابين وبيرس وشارون بل عن اولمرت. ويؤسفني أن شعوري وشعور كثيرين من كبار مسؤولي جهاز الأمن حينما كنا نتحدث عن نتنياهو وباراك، ان المصلحة الشخصية والانتهازية عندهما هي الشيء الذي يسبق كل شيء آخر»، وأضاف ديسكن: «طوال الوقت الذي كنت فيه في الجهاز وأدرته أو كنت في مناصب رفيعة، كنت مشغولا في الأساس بالمسؤولية اليومية التي لا نهاية لها، وهي علاج التهديدات والتحذيرات، والعمليات العسكرية وإدارة الأمور والإشراف عليها للتحقق من تنفيذها ونجاحها، وعلى رغم أنني اشتغلت كثيراً جداً في التفكير الاستراتيجي وبشؤون سياسية معقدة بدأ يؤرقني أكثر فأكثر بعد أن تركت الخدمة وبدأت أجلس كثيراً مع العائلة، سؤال أي دولة ستكون لأولادي وأحفادي. هل ساهمت حقاً في أن تكون هذه الدولة مكاناً يريدون العيش فيه ومكاناً يفخرون به؟ واليوم حينما أرى القيادة الحالية يقلقني ما بقي لهم هنا. سيصبح عندي منذ هذا الأسبوع ولدان في الجيش وبعد سنة كما يبدو سيكون لي ثلاثة أولاد في الجيش في الوقت نفسه، أنا قلق جداً». تهمة مباشرة كلمات ديسكن هذه أثارت قلق الإسرائيليين، ولا بد أنها أثارت قلق نتانياهو، لكنه كان قلقاً من نوع آخر تضاعف مع صدور تقرير مراقب الدولة. فقد وجه التقرير تهمة مباشرة لنتانياهو بمساندة إيهود باراك في معركته ضد رئيس أركان الجيش السابق، غابي اشكنازي، لمنعه من دخول الحلبة السياسية ومنافسة نتانياهو على رئاسة الحكومة. عندما يصف كثير من الإسرائيليين التقرير ب «الفضيحة المهنية والأخلاقية غير المسبوقة في تاريخ الجيش الإسرائيلي»، فإن مضمونه سيؤثر على كل شخصية ارتبطت بهذه الفضيحة. إيهود باراك والقائد السابق لقيادة الجنوب في الجيش يؤاف غلانط، الذي دعم باراك في معركته ونتانياهو الذي ساند وزير دفاعه. وفي الجبهة الثانية من الصراع غابي اشكنازي ومجموعة كبيرة من جنرالات الجيش وضباطه. فالتقرير الذي نشر في مئتين وأربع وتسعين صفحة عكس انقسامات في رئاسة الأركان وحروباً داخلية بين معسكرين متخاصمين بقيادة باراك وأشكنازي بحيث كان كل طرف يتجسس على الآخر للإطاحة به»، وهو ما يزعزع الثقة بقيادة الجيش، الذي يخوض حملة ترويج واسعة منذ أكثر من سنتين، يتفاخر خلالها بالجهود التي يبذلها لتعزيز قوته وقدرته على مواجهة مختلف التحديات المحدقة بإسرائيل. ويركز في حملة ترويجه على الجولات المشتركة التي تجريها قيادات الجيش والحكومة، خصوصاً على مختلف المناطق الحدودية التي تعتبرها إسرائيل مصدر تهديد لأمنها ولوجودها. مطالبة بتحقيقات اليوم، وبعد تصريحات ديسكن وتقرير مراقب الدولة، لم تعد تلك الجهات قادرة على سلب العقول بالترويج لنشاطها الدؤوب والتنسيق والتعاون من اجل مواجهة ما تسميه مخاطر تهدد أمن الدولة العبرية. فاللاعبون، من مختلف الجبهات، يتعرضون لحملة يقودها سياسيون ووسائل إعلام يطالبون بفتح تحقيقات ضدهم وتشكيل لجنة تحقيق، ويسعون لتجنيد الجمهور الإسرائيلي إلى جانب مطلب لجنة التحقيق. وكوسيلة للإقناع حاولت صحيفة «هارتس» إقناع الجمهور الإسرائيلي بضرورة تشكيل لجنة تحقيق لمحاولة إنعاش ذاكرة الإسرائيليين لجهة الأضرار التي سببتها الأحداث التي سبق وشهدتها هيئة أركان الجيش الإسرائيلي جراء سيطرة سياسيين عليها، كتلك المعروفة ب «قضية لفون» في عهد دافيد بن غوريون وحل «البالماح» مروراً بحرب تشرين (الغفران)، وقرار فك الارتباط مع غزة والخلاف الذي تشهده إسرائيل في الملف النووي الإيراني. فتقرير مراقب الدولة او «قضية هرباز» تعكس صورة من الاحتكاكات وصراعات القوى في القيادة الأمنية. وعلى رغم أن احتمال تشكيل لجنة تحقيق ما زال ضعيفاً حتى الآن، إلا أن الحقائق الأكثر خطراً لا بد وأن تتكشف في الشكوى التي هدد باراك بتقديمها ضد أشكنازي وأخرى أعلن أشكنازي أنه ينوي تقديمها ضد باراك. فعندما يبدأ التحقيق سيبحث كل طرف عن تفاصيل تدين الآخر، ومهما حاول طرفا الصراع إخفاء حقائق لا بد وأن حقائق ستمس بشكل مباشر وكبير مكانة وهيبة الجيش الإسرائيلي، محلياً ودولياً.