من الممكن لمن يريد أن يبدو متحمساً أكثر من اللازم لنقاء تاريخ قصور الحكم العربية في العصور الوسيطة، أن يندّد بأعمال مثل مجموعة الكاتب الأميركي واشنطن إيرفنغ المسماة «حكايات الحمراء»، إذ يعثر فيها على ما يعزّز نظرته المسبقة والجاهزة إلى الاستشراق «الشرير دائماًً» و «المدان دائماً»، ولكن، دائماً من موقع أيديولوجي يفسر الماضي بالحاضر. غير أن هذا لا يقلل من أهمية هذا العمل الأدبي التأسيسي ومن عمق جوهره، بوصفه من الإطلالات الأولى للأدب الأميركي الناشئ حديثاً آنذاك على العالم الخارجي -»الشرقي» بمعنى ما- من ناحية، ومن ناحية ثانية يعكس ذلك النزق، أو الازدواجية التي كان بدأ بعض الأميركيين المثقفين يستشعرونها في ذلك الحين، بين انغماسهم في هويتهم الجديدة (في العالم الجديد، الذي كان لا يزال عالم رواد ومجازفة وتأسيس)، وبين إدراكهم لنوع من الانتماء إلى عالم قديم لم ينفصلوا عنه عضوياً في شكل كلي بعد، وهم يعودون إلى اكتشافه في كل مرة يزورون فيها أوروبا أو يقيمون فيها. ومنذ الآن، لا بد من القول إن كاتباً مثل واشنطن إيرفنغ، لم يكن بالضرورة داعياً لهذه الحال، التي يمكن القول إن أدباء ومثقفين من طينة هنري جيمس وهمنغواي وغرترود شتاين سيكونون من المتنبهين لها لاحقاً، غير أن أدبه يقولها في ثناياه، وإن كان كُتب قبل أي شيء آخر كأدب ترفيه وغرابة. * ففي الوقت الذي كتب «حكايات الحمراء»، كان إيرفنغ يقيم في أوروبا منخرطاً في عمل ديبلوماسي أميركي، وكان بالكاد بدأ معروفاً بوصفه واحداً من أبرز كتاب الأدب الغرائبي في بلاده. قبل ذلك، أي قبل السبعة عشر عاماً التي أمضاها بين إسبانيا وإنكلترا أو فرنسا، كان واشنطن إيرفنغ منتمياً كلياً إلى أعرق ما في التقاليد الأميركية الناشئة، خصوصاً أنه كان ابناً لعائلة مقربة من الرئيس الأميركي المؤسس جورج واشنطن، وسمي تيمناً به. أما في أوروبا، فإنه بدأ بوصفه أول الروائيين وأكثرهم مقدرة على «إعطائنا صورة للتمزق الثقافي لدى الكتاب الأميركيين الذين ينقّبون، عن قناعة، في ماضيهم القومي الخاص، في الوقت الذي يستكشفون الميراث الأوروبي، ولكن بالقوة نفسها في الحالين». ومن هنا، فمن المؤكد أن روايات شهيرة لإيرفنغ، مثل «ريب فان وينكل» و «سليبي هالو»، تنتمي في غرائبيتها إلى الخرافات الجديدة التي راحت تتراكم في العالم الجديد (شرقي الولاياتالمتحدة خصوصاً، ومن حول نيويورك)، لكنها تنتمي أيضاً إلى أعرق ما في التقاليد الغوطية الأوروبية. وفي هذا السياق قد يكون من المفيد أن نشير إلى أن إيرفنغ، إذا كان كتب في آخر حياته سيراً لكولومبس وجورج واشنطن، بوصف الأول مكتشف القارة والثاني مؤسّس الأمة، فإنه كتب أيضاً سيرة -مثيرة للجدل- للرسول العربي وصحبه، غير أن هذه السيرة تكشف عن أن ما تبقى من حماسة لدى إيرفنغ في آخر ايامه كسفير للاتحاد في مدريد، كان قد بهت. المهم أن «حكايات الحمراء» تبقى من أجمل ما كتب واشنطن إيرفنغ، وإن اكتشفنا بساطة الحكايات التي يرويها، وكونها إنتاجاً ثانوياً بحتاً، مقارنة ب «ألف ليلة وليلة»، التي يبدو أن إيرفنغ اكتشفها في أوروبا في ذلك الحين. فالمهم في هذه الحكايات، ليس القوة الأدبية، بل الموضوع والأجواء التي يحسن إيرفنغ وصفها. الموضوع هو نفسه دائماً تقريباً: محاولة التقاء عالمين تقوم في وجه لقائهما عقبات تؤدي أحياناً إلى انتصار المتمردين عليهما، وأحياناً إلى التقائهما، فهل نجد في هذا كناية عن توزع إيرفنغ بين عالمين؟ وحتى «ريب فان وينكل» ألا تراها تحمل الفكرة نفسها عبر حكاية ذاك الذي يغيب عن مدينته وأصله ثم يعود بعد عقود طويلة وقد خُيِّل اليه أنه غاب فترة يسيرة من الزمن، فإذا به غاب عشرات السنين ومات خلال غيابه كل من يعرف وتبدل العالم؟ ينطلق واشنطن إيرفنغ في حكاياته من تمهيد يتحدث عن الرحلة التي قام بها إلى إسبانيا في العام 1829. وهناك تستقبله العائلة المكلفة حراسة قصر الحمراء نصف المهدم في غرفة جانبية، لكنه يرغب في الانتقال إلى جناح آخر كان يشغله الملك فيليب الخامس. وهناك تصله الحكايات التي يرويها في الكتاب، وهي تتعلق خصوصاً ب «بو عبدول» (أبي عبدالله) آخر ملوك غرناطة. الحكاية الأولى عنوانها «حكاية الفلكي العربي»، بطلها إبراهيم بن أبي عجيب الذي عاش في زمن الملك ابن جوش(!). وإبراهيم، بفضل مهارته وسحره، يتمكن من تدمير جيوش الأعداء. ولكن بعد ذلك يرفض الملك تزويجه بمن يحب، فيندفع معها قافزاً من أعلى الجبل. في الحكاية الثانية «برج الأنجال» نجدنا أمام قصة بنات الأمير محمد الهيجري الثلاث، اللواتي سجنهن الأب في برج كي لا يغرمن بأحد ويتركنه. لكن البنات يتعرفن إلى ثلاثة فرسان مسيحيين أسرى، فيغرمن بهم. وفيما تهرب ابنتان مع فارسيهما، تجبن الثالثة عن ذلك، وتبقى هناك حتى تموت يائسة. الحكاية الثالثة عنوانها «حكاية الأمير أحمد الكامل، أو حاج الغرام»، وهي تروي حكاية أمير شاب أدّت غيرة أبيه منه إلى سجنه هو الآخر في برج، لكنه يتمكن عبر استخدامه حمامة زاجلة من الوقوع في غرام أميرة مسيحية شابة، ويتزوج منها بعد الكثير من المغامرات. في الحكاية الرابعة، وعنوانها «إرث العربي» (ويسمى «المور» هنا)، نجدنا إزاء كنز خرافي يُعثر عليه في نفق ماء تحت برج الطوابق السبعة، وذلك بفضل خريطة تركها عربي لا يعرف أحد عنه شيئاً. أما الحكاية الخامسة «وردة الحمراء»، وهي الأكثر شاعرية وشفافية، فتبدو مقحمة على الحكايات الأخرى لأنها لا تنتمي إلى عالمها، إذ تطالعنا فيها حكاية شابة حسناء تعثر على عود يقال إن صوته شفى فيليب الخامس من آلامه، فتستخدم الشابة العود للالتقاء بحبيبها الفارس في حاشية الملك وتتزوجه في النهاية. وفي الحكايتين الأخيرتين يعود واشنطن إيرفنغ إلى حكاية بو عبدول، التي يؤكد لنا أنه -على عكس ما يقول التاريخ- لم يقتل عند سقوط غرناطة، بل حبس مع جيشه في مغارة، ويحدث في بعض الليالي المقمرة أن يخرج منها برفقة هذا الجيش ليُغِير على جيوش الأعداء محاولاً استعادة ملكه، مؤمنا بأنه ذات يوم سيخرج نهائياً ويتمكن حقاً من حكم غرناطة من جديد. وكما يبدأ إيرفنغ حكاياته بوصف حيّ، ووثائقي، لوجوده في غرناطة، يختتمها ببعض الوثائق التي ينشرها باعتبارها مستخلصة من مكتبة اليسوعيين في هذه المدينة، ما يحاول من خلاله أن يعطي الكتاب ذلك الإيهام الطريف بالواقع. وفي الإمكان طبعاً تحميل هذه الحكايات -والكتاب ككل- أبعاداً أيديولوجية كما أشرنا سابقاً، ولكن من المؤكد أن إيرفنغ إنما كتبه ضمن سياق كتابته الحكايات الغرائبية. وفيه نجد صدى للكثير من أعماله السابقة أو اللاحقة، والتي تبدو غير ذات علاقة بالتاريخ الأندلسي الذي يصف بعض سماته، على طريقته الخاصة. ولد واشنطن إيرفنغ في الوقت الذي نالت بلاده استقلالها، وصدرت أول رواية أميركية حقيقية. وهو سافر باكراً إلى أوروبا حيث أمضى سبعة عشر عاماً. وكان أول ما نشره وهو بالكاد بلغ العشرين من عمره، يوميات يصف فيها وصوله إلى أوروبا. ثم كان عمله التخييلي الأول الذي وصفه في شكل تاريخ متخيل لنيويورك تحت الإدارة الهولندية. في إسبانيا وإنكلترا، عمل إيرفنغ اولاً في التجارة، لكنه بعد ذلك صار ملحقاً لحكومة بلاده في سفارتها في مدريد ثم في لندن، وراح يوطد علاقته بالأوساط الأدبية في البلدين، في الوقت الذي راح ينشر رواياته تباعاً فتلقى حظوة النخبة وإعجابا من عموم القراء. وبعد سنوات الغربة تلك عاد إيرفنغ إلى الولاياتالمتحدة حيث عمل في الصحافة والكتابة، ينشر أعماله التي راحت تلقى رواجاً كبيراً، وجعلت له مكانة كبيرة. بل إنه اعتُبر احد المؤسسين الكبار للأدب البوليسي من خلال رواية «سليبي هولو»، على رغم أن هذه الرواية (المتحدثة عن فارس دفن مقطوع الرأس فيعود دائماً باحثاً عن رأسه قاتلاً أعيان بلدة «سليبي هولو» حتى يستعيد رأسه وينام نومه الأخير مطمئناً) تعتبر رواية غرائبية أكثر منها بوليسية. [email protected]