قبل الحديث عن العلم والتعليم النظامي أريد أن أنبه لفكرة أجدها مدخلاً مهماً لهذه المقالة، وهي أن الجهل ليس فراغاً أو غياب معلومات، كما يمكن أن يتصور العامة، ولو كان كذلك لكان من السهل التعامل معه من خلال ملء الفراغ بالمعلومات الصحيحة من دون أي مقاومة من العقل، وبالتالي يكون نجاح التعليم النظامي مسألة حتمية، لكن المشكلة في أن الجهل بنية ذهنية صلبة ومتحكمة، فالجاهل لا يسبح في فراغ هلامي، بل إنه يستطيع أن يفسر وينتخب الإجابات ويصوب، لكن النتائج تكون خاطئة ومضللة، بحكم أن هذه البنية الذهنية مبنية في أصلها على أوهام وأساطير ومفاهيم خاطئة ومعلومات مغلوطة أو ناقصة، وبالتالي تنشأ عن هذه البنية محاكمات للواقع والظواهر تنتج في ذهنية الجاهل أجوبة معتلة ثقافياً، لكن بالنسبة له مسلمات لا يمكن مناقشتها، فالجاهل لا يعاني من فراغ بقدر ما يعاني من بناء صلب وقوي يستطيع مقاومة أي محاولة علمية لإصلاحه. إذا ما قبلنا بهذه المقدمة فسوف يكون من السهل معرفة سبب فشل التعليم النظامي في تغيير الإنسان، بمعنى أن التعليم النظامي لا يؤثر كثيراً بهذه البنية الذهنية، وإن غيّر فهو تغيير هش أو هامشي بسيط لا يمكن أن نثق به، وكل ما يقوم به التعليم النظامي تغليف هذا البناء «الجهل» بقشرة من المعارف والمعلومات السطحية التي لا تعالج البنية الثقافية. العلم إذا ما حاولنا تعريفه بشكل بسيط هو آلية تفكير وليس حفظ معلومات ناجزة، بمعنى أن العلم وبالتالي التعليم هو بناء منهج علمي يستطيع معالجة المشكلات والأسئلة وتفسر الظواهر بنسق علمي واحد بالاعتماد على قوانين عامة وقياسات منطقية دقيقة، وهذا لا يتوفر في التعليم النظامي بشكل رئيس، فالتعليم النظامي قائم في أصله على تلقين معلومات وحقائق نهائية لا يُسمح للطالب باختبارها أو نقدها، ولا مشكلة في التلقين لأنه لا يوجد علم إلا بتلقين قواعد ومطلقات كلية، لكن المشكلة إذا ما كان التعليم كله قائماً على التلقين، سواء تلقين القوانين الكلية، أو الإجابات البسيطة من دون أي فاعلية من الطالب، فتكون محصلته النهائية كماً هائلاً من المعلومات المتفرقة في علوم متنوعة في الدين والفيزياء والأدب... إلخ، من دون أن يبني نموذجاً علمياً قادراً على المعالجة، فالتعليم النظامي بهذا المعنى يُلغي العقل الفعّال القادر على خلق الإجابات والنقد والتصويب بنسق علمي سليم، ويحول هذا العقل الفعّال إلى ذاكرة كبيرة كل همها حفظ المعلومات المتناثرة ومن ثم ترديدها وقت الحاجة من دون معرفة، أو اكتساب المنهج العلمي الذي أنتج هذه المعلومات في الأساس. المسألة الأخرى وهي مشكلة كبيرة أن التعليم النظامي مشروع صنع داخل نسق ثقافي معين، وبالتالي هذا المشروع يصبح أداة بيد النسق الثقافي فيكرس ويبرر هذا النسق، وكأننا ندور في دائرة مغلقة، فالمشروع الذي ننتظر منه إصلاح الإنسان المتخلف هو صنيعة هذا الإنسان المتخلف. إذا سلمنا جدلاً أن التعليم النظامي وصل لمرحلة الحياد فسوف يكون مجبوراً لتمرير النسق الثقافي كما هو من دون معالجة أو محاولة إصلاح فيخرج الطالب من أميته ويتعلم القراءة والكتابة وبعض المعلومات عن كريات الدم الحمر، وطريقة تكاثر دودة القز، لكنه أبداً لا يخرج من جاهليته الثقافية، وتبقى مفاهيمه السياسية مثلاً، أو تصوراته حول الإنسان كما هي يوم أن دخل المدرسة، اللهم بعض المعلومات السطحية التي لا تغير بنيته الثقافية، وبالتالي لا تغير سلوكه، ويمكن أن تلاحظ التشابه المضحك بين من حصل على شهادة الدكتوراه في تخصص فني وبين أمي يرعى الغنم في نظرتهم للمرأة مثلاً، فكلاهما يتحاكمان في هذا الأمر لبنية ثقافية واحدة. الأمر الآخر اللافت أن الطالب الذي يتعرض لتعليم ديني، كما لدينا، ويتلقى أخلاقيات وتوصيات إنسانية عظيمة لا تغير منه شيئاً كثيراً، لأنه يحول هذه الأخلاقيات الإنسانية لمعلومات بسيطة مفككة يتخلص منها عند أول اختبار ثم يعود لأخلاق بنيته الذهنية، والأسوأ من ذلك أن التعليم النظامي يعطي الطالب تبريراً لجاهليته الثقافية، فعند أي محاكمة لاعتلاله الثقافي الذي لا يدركه بطبيعة الحال سوف يبرر بأنه متعلم ولا يمكن أن يحمل المتعلم هذا الاعتلال الثقافي، وكثيراً ما تجد الاستغراب العامي عندما يرون سلوكيات مزعجة من بعض الذين أكملوا تعليمهم الجامعي «هذا وهو متعلم يسوي كذا»، وكأن التعليم أصبح حصانة من أي اعتلال ثقافي، وهذا وهم كبير ومخيف، فالتعليم النظامي يخرجك من أميتك ولا يخرجك من جاهليتك أبداً... الخروج من الجاهلية الثقافية لا يمكن أن تتحقق في التعليم النظامي بآلياته ومضمونه الحالي، لأن هذا الانعتاق يحتاج انفتاحاً على علوم وتجارب شعوب سبقتنا في التجربة ومحاكمة صادقة لبنيتنا الثقافية بمنهج علمي، وحتى نصل لهذا المنهج، الحل هو بذل الجهد الشخصي وترك الاكتفاء بالتعليم النظامي. _al3radi@