يمر اللبنانيون بامتحان شديد الدقة وهم يسعون الى إزالة التعارضات واختلاف المصالح في ما بينهم ويحاولون تقريب المسافات بين هذه المصالح في عملية تشكيل الحكومة الجديدة، ما يشكل تمريناً لهم على مرحلة مختلفة تماماً عن المراحل السابقة من تأليف الحكومات في لبنان. فالأطراف السياسيون الداخليون اعتادوا قبل عام 2005، أي قبل الخروج السوري من لبنان على ألا تشكّل الحكومات إلا عبر التدخل السوري المباشر، بصيغها وأسمائها وحقائبها، لترجيح كفة هذه التشكيلة أو تلك. وكانت مراسيم الحكومات لا تصدر في نهاية كل عملية مشاورات إلا بعد أن يقول الوصي السوري كلمته فيها، وبعد أن يحصل على ما ومن يريده فيها ويتأكد من أن نسب الأحجام داخلها لمصلحته، فكان يحصل تارة على الثلث المعطل، وأخرى على النصف +1، وصولاً الى الحصول على أكثرية الثلثين في السنوات الأخيرة من إدارته المباشرة للشأن اللبناني التي كانت تصل الى حد التدخل في تعيين الحاجب وفي الانتخابات البلدية... الخ. بعد عام 2005 اختلف الأمر، إذ تألفت الحكومة الأولى المشرفة على الانتخابات بتسوية بين اللبنانيين، لتمرير الانتخابات النيابية في حينه، لكن برعاية خارجية هذه المرة، غير سورية، لملء الفراغ الذي تركته الإدارة السورية المباشرة. وشاركت في هذه الرعاية في حينه دول الغرب أي الولاياتالمتحدة الأميركية وفرنسا جاك شيراك وإيران السيد محمد خاتمي. وبعد الانتخابات سعى الغرب الى لعب دور الضابط لعملية تأليف الحكومة. لكنه لم ينجح لأسباب عدة منها عدم قدرته على لعب الدور الذي كانت تلعبه الإدارة السورية، نظراً الى محدودية تأثيره قياساً الى قدرات الجانب السوري الذي كان يتواجد على الأرض اللبنانية بقواته وأجهزة استخباراته... وسلّم الجانب السوري لحليفه الرئيسي أي «حزب الله» أن يتولى الأمر بالنيابة عنه. ومن أسباب عدم نجاح الغرب في لعب دور الراعي لعملية تأليف الحكومات كما كانت تفعل دمشق، أن جزءاً من الفراغ الذي تركته الأخيرة بانسحابها، ملأه التحالف الرباعي بين «حزب الله» و «أمل» وتيار «المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي. وسرعان ما قاد انفراط هذا التحالف الى الصراع على مركز القرار في السلطة السياسية أي الحكومة، ما أدى الى ما شهده لبنان بين أواخر عام 2006 وعام 2008 من حال اللااستقرار الأمني والسياسي ما جعل «حزب الله»، الأقدر على تعديل ميزان القوى على الأرض، ينجح في رعاية صيغة تشكيل الحكومة على الأقل والتحكم ببعض الحقائب الوزارية عبر اتفاق الدوحة الذي جاء تسوية بين الغرب والمملكة العربية السعودية ومصر من جهة وإيران وسورية (وحزب الله) من جهة ثانية، برعاية قطرية. والحكومة المنقضية ولايتها شهدت ولادة صعبة مع بعض المحاولات من الجانب القطري لتذليل العقبات بحصول «حزب الله» الذي يشكل العمود الفقري للمعارضة على الثلث المعطل داخلها. يكمن الامتحان الجديد الذي يخوضه اللبنانيون هذه المرة في تغييرات حصلت لا بد من أن تنعكس على قدرة الحزب على أن يفرض المعادلة التي يريدها في قلب الحكومة، وعلى اطمئنانه الى التركيبة الحكومية المقبلة. وهذه التغييرات لا بد من أن تقلق الحزب وتدفعه الى ربط تسهيل الحكومة بضمان عدم تأثير هذه التغييرات على نفوذه في السلطة. ويمكن تعداد هذه التغييرات منذ اتفاق الدوحة في ايار (مايو) 2008، كالآتي: 1- انتخاب رئيس للجمهورية، هو ميشال سليمان مختلف تماماً عن الرئيس اميل لحود، الذي ورثه الحزب عن الإدارة السورية وكان يتبع قاعدة الرئيس الذي لا يرفض طلباً، لا لسورية ولا للحزب. فالرئيس سليمان مختلف تماماً عنه. وهو يسعى في الحد الأدنى الى إقامة توازن في موقفه على رأس السلطة التنفيذية. بل انه بما يمثله من موقع مسيحي أول في السلطة يشكل منافساً للحليف والغطاء الأول، المسيحي، للحزب أي العماد ميشال عون. 2- ان التقارب السعودي – السوري أثمر تسوية حول الوضع اللبناني بدأت قبل الانتخابات النيابية التي أنتجت أكثرية من قوى 14 آذار، واستمرت بعدها، قوامها حفظ الاستقرار وعدم التدخل في الشأن الداخلي وتطبيق اتفاق الطائف بما يشمله من تطبيع العلاقة اللبنانية – السورية التي توجب زيارة زعيم تيار «المستقبل» النائب سعد الحريري لدمشق كرئيس للحكومة. لكن إيران، الحليف الأول بل الراعي الأساسي للحزب ما زالت خارج هذا التقارب الذي يأتي ضمن مناخ دولي – إقليمي، لا بد من ان تسعى دمشق من خلاله الى استعادة ما فقدته من تأثير في لبنان، في مقابل مناخ دولي – عربي يصب الجهود على الحد من نفوذ ايران الإقليمي. فهل سيتمكن اللبنانيون من صوغ تسوية حول تشكيل الحكومة استناداً الى هذه التغييرات، وهل سيتأقلم «حزب الله» معها؟