خلف الاحتفالات التي رافقت إدراج شركة «علي بابا» الصينية العملاقة في سوق نيويورك المالية صورة مهتزة للاقتصاد العالمي عموماً والصيني خصوصاً. رئيسة مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي جانيت يلين أطلت على الإعلاميين لكن من دون أن تقدم أي جديد، بل اكتفت بتكرار تفاؤلها الحذر، في وقت خفضت توقعاتها للنمو الأميركي بصورة طفيفة ليبلغ معدل اثنين في المئة. أما الخبر الأبرز، فجاء من الصين التي يبدو أنها تواجه مصاعب اقتصادية تشبه ما واجهته الدول الغربية إبان اندلاع الركود الكبير في 2008. وفي وقت أظهرت مؤشرات قطاع الصناعة الصيني تراجعاً غير مسبوق منذ 2008، وردت تقارير من بكين أشارت إلى أن الحكومة وافقت على إقراض مصارفها الخمس الكبرى ما مجموعه 81 بليون دولار لحفز الاقتصاد. واعتبر الخبير الاقتصادي الأميركي ريان رتكوسكي أن نظرة سريعة على بيانات الصين للشهر الماضي «قد تبدو مخيفة»، فالنمو السنوي للقيمة المضافة للصناعات تدنى إلى 6.9 في المئة، وهو الأدنى منذ 2008». وأضاف رتكوسكي أن نمو الناتج الصناعي الصيني للنصف الأول من هذا العام بلغ 8.5 في المئة، مقارنة ب 9.7 في المئة نهاية العام الماضي». وقال الخبير الأميركي إن التباطؤ في النمو الصيني دفع البعض إلى التخوف من أن الصين لن تحقق نسبة نمو في ناتجها المحلي تصل إلى 7.5 في المئة، وهي نسبة الحد الأدنى التي تتمسك بها حكومتها، بل قد يكون نموها أدنى من ذلك بكثير. لكن رتكوسكي يشكك في تأثير التباطؤ الصناعي في إجمالي النمو الصيني، ويقول إن الصناعة تراجعت إلى المرتبة الثانية في النشاط الاقتصادي الصيني، في 2013، خلف قطاع الخدمات. وتشير تقارير 2013 إلى أن الناتج الصيني استند بنسبة 45 في المئة إلى الخدمات، و44 في المئة إلى الصناعة، و10 في المئة إلى الزراعة. وبالمقارنة، يتوزع النشاط الاقتصادي الأميركي بين 80 في المئة خدمات، و19 في المئة صناعة. ونمو الخدمات مقابل الصناعة هو حجر الزاوية في سياسة التعديل التي تحتاجها الصين من أجل قلب نموذجها الاقتصادي من واحد يعتمد بالكامل على الاستثمارات الخارجية والصناعة والتصدير، إلى آخر مبني على الاستهلاك المحلي. لكن رتكوسكي قد يكون مخطئاً، إذ أن السياسة الصينية لا يبدو أنها مرتاحة لتراجعها الصناعي، وهو ما بدا جلياً في المبلغ الضخم الذي قدمته الحكومة إلى مصارفها الخمسة، وربطته بشروط مفادها أن هذه المصارف تعمل على إقراض الأموال إلى المؤسسات الصناعية، لا إلى المستهلكين الصينيين المفترض أن تعول عليهم الحكومة للانتقال باقتصادها وتعديله. هذا يعني أن بكين تتصور الانتقال من الصناعة إلى الاستهلاك مع إبقاء معدلات الصناعة والتصدير عالية، ومع إبقائها أولوية، ربما لأنها ساهمت في النهضة الاقتصادية الصينية الكبيرة على مدى العقود الماضية. وربما يعتقد الحزب الشيوعي الحاكم أن تحديد نسبة النمو السنوية ب 7.5 في المئة أمر ضروري «للأمن الاجتماعي» الصيني والاستقرار السياسي عموماً. لكن التصور الصيني المذكور لن يسمح بعملية الانتقال، أو «النضوج الاقتصادي» وفق الاقتصاديين الغربيين. والحكومة الصينية ما زالت في موقع يسمح لها القيام بحملات حفز، نظراً إلى أن دينها العام لا يتجاوز 20 في المئة من ناتجها المحلي، ونظرا للتريليونات الأربعة من العملات الصعبة التي تحتفظ بها الخزانة الصينية. لكن الحفز المستمر ليس خطة مستدامة، ويمكنه أن يؤدي إلى استنزاف الموارد الحكومية الصينية في المديين المتوسط والطويل. النمو الصيني يتراجع، وعلى الحكومة أن تتقبل ذلك كخطوة في سبيل تعديل اقتصادها، أو على الأقل هكذا تعتقد غالبية الاقتصاديين الأميركيين. لكن ذلك لا يعني خروج الحكومة الصينية تماماً من تنظيم السياسات الاقتصادية، فأميركا نفسها أقرت رصد مبالغ لتمويل ما يعرف بمصرف الاستيراد والتصدير، الذي يرعى التجارة الأميركية ويعزز تنافسيتها في السوق العالمية. وفي الوقت الذي يدعو الاقتصاديون الأميركيون الحكومة الصينية إلى رفع يدها عن السوق، يدعو عدد لا بأس منهم الحكومة الأميركية إلى الاستمرار في تعزيز التنافسية التجارية الأميركية، خصوصاً أن واشنطن هي في وسط نقاشات صاخبة حول إبرام اتفاقين تجاريين ضخمين: الشراكة عبر المحيط الهادئ والشراكة مع أوروبا. هكذا، يمكن لبكين أن تسهر على تعزيز تنافسية صادراتها وفتح الأسواق أمامها، على غرار معظم حكومات الاقتصادات المتطورة، لكن أن تستمر في الحفز على مستوى المصارف والصناعات، فهو ما يبدو أنه نموذج لم يعد صالحاً لتحقيق البلاد مزيداً من النمو أو للاستمرار في المعجزة الصينية التي أذهلت كثيرين على مدى العقود القليلة الماضية.