هل تصوّرتَ يوماً أن تستمع إلى رباعي وتريات يعزف وأنت نائم على الأرض مع وسادة تحت رأسك؟ أو أن تشاهد عرضاً موسيقياً لسبع ساعات يبدأ عند السابعة مساء لينتهي عند الثانية فجراً تُحطَّمُ خلاله مئة آلة فيولون؟ أو أن ترى عرضاً في الهواء الطلق يتمّ اللجوء فيه إلى المناطيد الهوائية العملاقة وتتحاور فيه راقصة مع طائرات من دون طيّار؟ أو أن تصغي إلى مقطوعة موسيقيّة تقوم فيها منشّفات الشعر بالعزف على آلات الفلوت وآلات خشبية أخرى؟ هذه ليست بقصص من نسج الخيال وليست سيناريو لرؤية مستقبلية للحفلات الموسيقية خلال السنوات الخمسين المقبلة. هذه فكرة بسيطة عن بعض العروض التي تضمّنتها الدورة ال47 لمهرجان «دارمشتاد الدولي للموسيقى الحديثة» الذي اختتم في ألمانيا. المهرجان الذي ينظّم كلّ سنتين هو بمثابة فضاء جريء ومساحة للاختبار وتقديم الجديد تماشياً مع اسم دارمشتاد الذي لطالما شكّل مرادفاً للحداثة الموسيقية. في الدورة الحالية كثير ممّا رآه المعتادون على المهرجان خلال الأعوام الماضية. أمّا بالنسبة إلى الزوّار الجدد فتترسّخ لديهم الصورة حول ما سمعوه عن «صرح الحداثة»، كما كان يُطلِق بعضهم على المهرجان. ومهرجان دارمشتاد عبارة عن حفلات ودروس وورش عمل ومحاضرات موجّهة للمؤلّفين والموسيقيين المتخصّصين بالموسيقى الكلاسيكية الحديثة أو المعاصرة. بكلمة «حديثة» نعني الموسيقى التي ولدت خلال السنوات الخمسين الأخيرة وما رافقها من تجريب. موتسارت قصد منطقة دارمشتاد في شبابه، وغوتيه عاش وترعرع في مدينة فرانكفورت المجاورة ليكتب فيها الكثير من مؤلفاته الشهيرة، ولكن هذا الزمن قد ولَّى. فلا وجود لموسيقى العظماء من القرون الماضية في هذا المهرجان. الأسماء الأكثر تداولاً هي أسماء كارل هاينز شتوكهاوزن وهلموت لاخنمان وجاسينتو شيلسي وجورج أبرغيس، اضافةً إلى الكثير من المؤلّفين الشباب. هنا يجتمع كلّ سنتين عالم الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة للتفكير في مستقبل هذه الموسيقى. ما يحوّل هدوء المدينة الألمانية خلال فصل الصيف إلى حركة فنيّة تبدأ صباحاً لتنتهي غالباً بعد منتصف اللّيل. افتتح المهرجان بعمل «كاري» (مربّع) لكارل هاينز شتوكهاوزن والذي يعود إلى عام 1959، عملٌ ضخم قلّما يعزف بما أنّه يتطلّب اللجوء إلى أربع أوركسترات وكواريس، إضافة إلى أربعة قادة أوركسترا معاً. لهذه الالتفاتة نحو الماضي رمزية خاصة كما أكّد لنا توماس شيفير، مدير المهرجان، في حديث إلى «الحياة». يقول: «ما نحاول القيام به، هو النظر إلى أعمال الماضي وربطها برؤية معاصرة وحديثة». هذه الالتفاتة الرمزية قوبلت بنظرة معاصرة انعكست عبر عزف نحو 25 عملاً موسيقياً للمرّة الأولى خلال المهرجان». يبقى مهرجان دارمشتاد وجهةً اساسيّةً بالنسبة إلى المؤلّفين والموسيقيين الشباب ليسمح لهم بالاحتكاك بأبرز المؤلفين المعاصرين واستنباط التيارات الفنيّة الأكثر تداولاً. فقد أكّدت الدورة الحالية السمعة العالمية التي لا يزال المهرجان يحظى بها مع مشاركة 450 شخصاً بين مؤلفين وموسيقيين من أكثر من 46 جنسية مختلفة. ولكن إن سُجِّل حضور كبير للمؤلفين والموسيقيين من أوروبا الغربية ومن الولاياتالمتحدة ومن أميركيا اللاتينية، فلم يُلاحَظ أيّ وجود عربي إلاّ من خلال قلّة قليلة من الموسيقيين من أصل عربي ولدوا ونشأوا في الغرب. الحضور العربي الوحيد من حيث العروض تمثّل بعمل لافت لاقى أصداء إيجابية جداً للفنان العراقي المقيم في الولاياتالمتحدة وفاء بلال. المهرجان و»سي آي إي» لم تكن مدينة دارمشتاد الهادئة، الواقعة في وسط غرب ألمانيا، فعلاً مهيّأة لتشكّل علامةً فارقة في المشهد الموسيقي العالمي. فلبدايات المهرجان قصة مثيرة بما أنّ ولادته عام 1946 لم تكن ممكنة لولا التمويل الأميركي غداة الحرب العالمية الثانية. كانت آنذاك المنطقة المحيطة بدارمشتاد ضحية قصف عنيف قضى على أكثر من 80 في المئة من مبانيها ومنازلها. فمع الإحباط الذي كانت تعانيه ألمانيا غداة الحرب ومع الوجود الأميركي العسكري في تلك المنطقة، رأت الولايات المتّحدة أنّ من مصلحتها آنذاك أن يكون لها حضور في المشهد الثقافي في غرب أوروبا لخلق فضاء يصعب على السوفيات الدخول إليه. ومن هنا الدعم الذي قدّمته لمهرجان يعنى بالموسيقى الحديثة. فالاهتمام بالموسيقى الحديثة كان بمثابة الرسالة أو الموقف المناهض للنازية بما أنّ الفكر والعقيدة النازية كانا معارضين لكلّ حداثة وجديد في الفن. ومن هنا ولادة المعاهد والمهرجانات التي كانت تُعنى بالحداثة خلال تلك الفترة والتي كانت تحظى بدعم خارجي. بعد أن نظر إليها كفنّ ولغة مناهضة للنّازية والفاشية أصبحت الموسيقى الحديثة ابتداء» من عام 1948 أداة لمناهضة الشيوعية. فبدورها الشيوعية كالنازية كانت تحرّم أيّ حركة ثقافية حديثة مفضّلة» التّعلّق بالماضي. وكان مصير الفنانين ذات الرؤية الحديثة حينها إمّا السجن والموت أو الهرب والهجرة إلى الغرب. الكثير من المؤرِّخين يتحدّثون عن دور فاعل لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إي» التي ولدت خلال تلك الفترة، في الترويج لبروباغندا مناهضة للشيوعية أو لنوع من البروباغندا الثقافية عبر الموسيقى والفنون. وفق هؤلاء فإنّ ذلك كان يتمّ في الكواليس عبر تمويل مشاريع كهذه من دون الإفصاح عنها. على رغم شكوك بعضهم، يعتبر عدد من المؤرخين أنّ مهرجان دارمشتاد وُلِدَ ومُوِّل على أيدي الأميركيين. ويتبيّن لمتابع تلك التظاهرة الفنيّة البارزة في دورتها الأخيرة أنّ التأليف الموسيقي لم يعد اليوم مجرّد ثمرة وحي موسيقي ينتاب المؤلف فجأةً. الكثير من العروض التي قُدِّمت خلال مهرجان دارمشتاد تضمّنت مزيجاً بين الأداء الموسيقي واللجوء إلى الفيديو أو المسرح الموسيقي أو التأثيرات الصوتية الآتية من عالم الكومبيوتر والإلكترونيات. كما أنّ الكثير من الأعمال اعتمدت على نصوص لكتّاب أو على أفكار استوحاها المؤلفون من عالم اليوم، منها ما هو سياسي ومنها ما هو فلسفي أو اجتماعي. تيارات موسيقيّة عدّة مُثِّلت خلال أسبوعي المهرجان وعَكَسَت حيويّة الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة. ولكن وإن بَدَت هذه الموسيقى الحديثة بالنّسبة الى بعضهم، صعبة للاستماع أو للفهم، فإنّ تجربة مهرجان دارمشتاد تؤكِّد عمق هذه الموسيقى وغناها لتعكس إلى حدّ كبير زمننا الحالي. قائد الأوركسترا الفرنسي سيلفان كابرولينغ الذي شارك في المهرجان لخّص ذلك بطريقة جميلة: «لا يجوز الخوف من المجازفة، فالتجارب الفنيّة ضرورية...».