أكثر ما ميّز المشهد التلفزيوني التونسي خلال العام الماضي هو ما اتسمت به العلاقة بين المنتوج والمتلقّي من عدم انسجام وصل الى حدّ السعي لتطهير الإعلام، وهو ما حدث قبل أيام قليلة في مدينة سوسة في الساحل الشرقي للبلاد حيث خرج عدد من المناهضين للإعلام إلى شاطئ المدينة (من أهم الشواطئ التونسية) وألقوا فيه عدداً كبيراً من أجهزة التلفزيون القديمة، في إشارة واضحة لعدم رضاهم على أداء الإعلام التلفزيوني الرسمي. وكانت ذروة التشنّجات خلال مارس (آذار) الماضي، حين قرر عدد من المواطنين الموالين لحركة «النهضة» الحاكمة، الاعتصام أمام مبنى التلفزيون الرسمي التونسي في تحرك حمل عنوان «اعتصام الأحرار لتطهير إعلام العار». تحت هذا الشعار نصب المتظاهرون خياماً أمام مبنى التلفزيون العمومي أقام فيها عدد منهم ليلاًَ نهاراً، ورافقت الاعتصام شعارات تندد بوجود الوجوه ذاتها التي تسيّر القطاع بالخط التحريري القديم ذاته، كما قالوا. وتخللت الاعتصام أناشيد دينية وأغاني «ثورية» فيها شتائم ونعوت غير لائقة لأسماء بعينها من العاملين في التلفزيون الرسمي، وطبعاً لم يدّخر المعتصمون جهداً لسب هذا أو ذاك من خلال مضخمات الصوت ما أثّر نفسيّاً على أبناء التلفزيون. انفضّ المولد، كما يقول المصريون، لكنّ الحكاية لم تنته، بل باتت التجاوزات والاعتداءات على الإعلاميين أمراً يوميّاً، وبخاصة أبناء المؤسسة العمومية وبعض القنوات الأخرى، مثل قناة «الحوار التونسي» التي يتهمها بعض أنصار الحكومة بأنّها تؤلّب الرأي العام وتحرض على الدولة، كما اتهموها أيضاً ببثّ النقائص من دون الوقوف عند الإنجازات. الاعتداءات تنوعت بين اللفظي والجسدي، والمعتدون إمّا من أنصار النهضة أو بعض رجال الأمن أحياناً. وحتّى داخلياً، لم ينج الأمر من تداعيات، وبخاصة بعد تغيير المدير العام للتلفزيون الرسمي ومحاولة إبعاد رئيس تحرير نشرة الأخبار، لعدم توافق في التصورات والخط التحريري، وفق بعض المراقبين. وعموماً، ما زال التونسي غير راضٍ عن أداء تلفزيونات بلاده، سواء العمومية أم الخاصة، وما زال ينتظر مادة تلفزيونية تتحدث عنه كما يريد، وتبلّغ صوته في زحمة الصراع السياسي الذي بات أشبه بمعارك وليس جدلاً أو نقاشاً. يجلس التونسي اليوم أمام شاشات تونسية لا تلبّي حاجاته، لا في المعلومة ولا في المواقف، ولا في حتى في الترفيه. مشهد تلفزيونيّ متعدد من حيث الشكل لكنه متشابه إلى حدّ التطابق من حيث المضمون، ولو أنّ بعض القنوات أصبح يبحث عن الابتكار والتجديد ولو بحياء، بخاصة مع ظهور وافدين جدد إلى المشهد الفضائي التونسي: قنوات انطلقت وأخرى تنتظر البدء، قنوات دخلت بوّابة البثّ المباشر بعد مرحلة التجريب، مثل قناة «الجنوبية» التي انطلقت حديثاً في بثّ البرامج الإخبارية والحوارات المباشرة، أو قناة TWT التي بدأت هي الأخرى تكسب بعض المشاهدين، كذلك الشأن لقناة «تونسنا»، فيما تبقى الأفضلية حالياً ل «التونسية»، التي ساهم سجن مديرها في أن تظفر بالمراتب الأولى من حيث نسب المشاهدة (نسمة» المنافس الأول لها ثمّ «حنبعل»)، اذ حققت قناة «التونسية» قفزة هائلة على مستوى نسب المشاهدة، بوصولها لنسبة 34.3 في المائة، تلتها الوطنية الأولى ب 22.2 في المائة، وفق سبر للآراء قامت به إحدى الشركات المتخصصة. واحتلت قناة «حنبعل» المرتبة الثالثة، تلتها قناة «نسمة». أمّا المراتب الستّة الباقية، فكانت من نصيب «أم بي سي 4» و «أم بي سي 1» و «الوطنية الثانية» و «الجزيرة» و «أم بي سي 2» و «أبوظبي الأولى». والملاحظ غياب قنوات مثل «تونسنا» و «الزيتونة» التي يملكها ابن وزير التعليم العالي والحوار، وTWT و «الجنوبية»، فضلاً عن القنوات الناطقة بالفرنسية، وبخاصة «فرنسا 24» التي حقّقت انتشاراً واسعاً في العام الأول للثورة. ولعلّ قضية مدير «التونسية» المنتج سامي الفهري، الذي يُشهد له أنه أحدث ثورة على مستوى برامج المنوعات والمسابقات والإنتاج الدرامي، وسجنه بعد اتهامه بالاستيلاء على المال العام خلال عمله في مؤسسة التلفزة التونسية قبل 14 يناير، ساهم في شكل كبير جداً في صعود أسهم قناته التي تبثّ من خارج تونس. هذه القضية أسالت حبراً كثيراً وخصصت لها برامج بالجملة في الإذاعات والتلفزيونات التونسية والأجنبية، بخاصة بعد اتهام محامي الفهري وزارة العدل باحتجازه على خلفية عدم تنفيذ قرار محكمة التعقيب الذي يقضي بإطلاق سراحه. واللافت اهتمام المشاهد التونسي بالأعمال الدرامية التركية التي تبثّها «أبوظبي الأولى» مثلاً أكثر من اهتمامه ببرنامج حول الانتهاكات التي طاولت بعض رموز حركة «النهضة» إبّان حكم بورقيبة وبن علي. كما تستأثر برامج الطبخ وأفلام الحركة باهتمامه أكثر من المعارك السياسية في برامج الحوارات. عامان بعد 14 يناير والحال لم تتغيّر بالشكل الذي كان مأمولاً على الأقل في أعين المواطن العادي الذي تعب نفسياً وجسدياً وكاد يتملّكه اليأس من تلفزيونات تونسية تحكي واقعه.