أنتجت ثوراتٌ أزهرت في دول عربية مجموعةَ أفلام سينمائية تناولت قضايا لطالما كان ممنوعاً التطرق اليها. وتعامل مخرجو هذه الأعمال بحرية مع أفكار كانت كفيلة بزجهم في السجن سابقاً لمجرد التفكير فيها، فانتقدوا وأسرفوا في الانتقاد، وأكثروا من لسعاتهم لأشخاص لم تعد لهم قدرة على المحاسبة ولا على استعمال المقص. لكن السنة السينمائية في لبنان تختلف عن مثيلاتها في دول عربية، فلا أعمال تحاكي أزمات سياسية، ولا أفلام انتقادية بالمعنى الحقيقي للنقد، ومع هذا برزت عام 2012 لغة سينمائية شبابية حيوية نضرة، مثقلة بالهم المعيشي والحياتي وقضايا آنية، بعيداً من التنظير والفلسفة، في مقابل أعمال روائية عانت ضعفاً في العلاج الدرامي أو الإخراجي، ومهرجانات جادت بالموجود. المخرجون الجدد ابتعدوا من معالجة أسباب الحرب الأهلية في لبنان أو نتائجها، خصوصاً أن الجمهور ملَّ أعمالاً تدين فئة وتؤيد أخرى، فغاصوا -مثلاً- في أوضاع الناس المعيشية إبّان الحرب وما عانوه من جوع وانقطاع للكهرباء وتهجير، إنما بطريقة غير مباشرة، ومن خلال قصص حميمة وعاطفية وشخصية، وثّقت لحظات تاريخية ببساطة وعفوية («يامو» لرامي نيحاوي، و «أبي لا يزال شيوعياً» لأحمد غصين). وفي أعمال أخرى، اقترب مخرجون من الواقع أكثر، مهملين الحرب بمعناها الواسع، متجهين صوب حروب صغيرة عانوها في المجتمع أو المدرسة أو الحي أو التاكسي... أو مع «الآخر» الذي لا يزال يبدو غريباً والأفضل عدم الزواج منه، كما قدمته الشابة غنى ضو في فيلمها «علة غير علتي». وفي «وراء الحجاب» (ديما جمال)، تطرقت المخرجة الى التمرد على عادات وتقاليد يفرضها الأهل على الأنثى تكون ضد قناعاتها ولكنها مرغمة على تنفيذها، ما يُولد انفجاراً تحررياً أو ضغطاً نفسياً قاتلاً. ومن الأعمال الشبابية اللافتة «خلفي شجر الزيتون»، الذي عالجت فيه باسكال أبو جمرة قضية المتعاملين مع إسرائيل وعدم تقبل المجتمع لهم ولعائلاتهم، وما عانوه من نبذ داخل المجتمع. اللافت في الجيل السينمائي الجديد بدء تحرره نسبياً من قيود الحرب الأهلية، والبعد من القتل والدمار والعنف في عرض الأفكار، فالجوانب الحياتية والاجتماعية والاقتصادية خلال الأزمات هي حروب أيضاً، انما بلا معارك طاحنة، ولا رصاص. فيديو كليب وشهدت هذه السنة عدداً جيداً من الأعمال الروائية الطويلة، المتفاوتة شكلاً ومضموناً، وبرز مخرجو فيديو كليبات (جو بوعيد، عادل سرحان، سليم الترك، وثمة أعمال قيد التنفيذ) بتجارب تميزت بصورة جميلة وبهية، وخلل في الحبكة الدرامية والسيناريو. وهنا يبرز سؤال هام: ما مدى قدرة مخرج فيديو كليب على الإمساك بزمام الأمور في فيلم روائي طويل؟ غير أن غالبية هذه الأعمال لم ترتق بعد إلى مستوى يساعد السينما اللبنانية على النهوض والازدهار، خصوصاً أن المعالجة خلت من مقومات أساسية، كالإبداع والتجديد والابتعاد عن أفكار نمطية، والتركيز على جمالية الصورة والألوان والأزياء، وإهمال النص، وفي بعض الأحيان سوء إدارة الممثل. وبرزت هذه السنة أيضاً، موضة الأفلام الحربية ك «خلة وردة» و «33 يوم» (جمال شورجه)، التي تحاكي فترة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، لكنها استندت إلى قصص تثير عواطف الجمهور، من خلال جمل نمطية تقليدية، كالتعلق بالأرض والمبالغة في فعل المقاومة أحياناً، أو الاعتماد على مشاهد صُوّرت بتقنيات متطوّرة. ونُفذ هذه السنة «زنزوخت» أول فيلم خيال علمي لبناني للمخرج بدران روي بدران، حيث نجح بتقديم صناعة بصرية صوتية أدخلت المشاهد إلى عالم غرائبي وافتراضي في الوقت ذاته. لكن العمل لم يلق إقبالاً كثيفاً من قبل الجمهور، وهذه ميزة مشتركة لدى غالبية الإنتاجات المحلية. ومن الأفلام الجيدة هذه السنة «إنسان شريف» لجان كلود قدسي، الذي عاد بعد غياب، مبتعداً عن هموم مجتمعه ومتجهاً صوب المجتمع الأردني وجرائم الشرف فيه. صُوّر العمل بين لبنان والأردن، وأتى قوياً ومتماسكاً ومتميزاً بلقطاته الخارجية. ويبقى العمل الأبرز لعام 2012، «قصة ثواني» للارا سابا، الذي افتتح مهرجان بيروت السينمائي الدولي، وتبدأ عروضه التجارية مطلع 2013. في فيلمها الروائي الأول، تقول سابا إن ربيع السينما اللبنانية أزهر. تحفة متكاملة قدمتها شكلاً ومضموناً، فلم يكن نجم الفيلم ممثلاً أو ممثلة، بل السيناريو والحبكة الدرامية لعبا دور البطولة، والممثلون أكملوا الصورة. تميز العمل بقوة لغته التعبيرية والواقعية البسيطة، والقدرة على ملامسة مشاكل كل واحد منا. دخلت كاميرا سابا إلى تفاصيل مخفية في بيروت عرفنا معها المدينة على حقيقتها. يتمحور الفيلم على قصة ثلاث شخصيات في المدينة تتقاطع أقدارها من دون أن تعرف أيٌّ منها الأخرى، وتؤثر قرارات كل منها -من حيث لا تدري- في حياة الشخصيات الأخرى. وأكملت سابا العمل بطريقة إخراجية لم نعرفها مسبقاً في لبنان، على غرار أليخاندرو غونزاليس في «بابل». وتبقى مشكلةُ الرقابة ومقص الرقيب علةَ العلل في لبنان، خصوصاً أنها تتحرك بتعليمات جهات دينية أو نقابية، ما ينتج عنه أحياناً إيقاف بعض العروض، كما حصل مع «تنورة ماكسي» لجو بوعيد، أو «آخر فالنتاين في بيروت» لسليم الترك، ما قدم للعملين إعلاناً مجانياً. مهرجانات لم تستطع مهرجانات السينما في لبنان هذه السنة استقطابَ عناوين بارزة، أو استضافةَ أسماء لامعة، ويعود ذلك لأسباب جمة، أهمها قلة الدعم المادي، أو عدم اهتمام مخرجين أو ممثلين بلبنان، لأنه لا يعتبر منصة قادرة على تقديم إغراءات، على غرار مهرجانات عربية. لكن نشاطات جمعية «متروبوليس» تبقى الأبرز، نظراً لكثافة مواعيدها وفرادتها، كتنظيمها «مهرجان السينما الأوروبية» الذي اختتم أخيراً، وعرضها أبرز الأعمال المشاركة في مهرجان «كان»، إضافة إلى اهتمامها بالإنتاج المحلي القديم وجمعه في تظاهرة «أجمل أيام حياتي» التي ستمتد لثلاث سنوات مقبلة. «مهرجان الفيلم اللبناني» نجح هذه السنة في جمع أعمال شبابية واستقطاب أعمال أجنبية تناولت لبنان، أو استضافة مخرجين لبنانيين مقيمين في مدن أوروبية وأميركية. ومن المهرجانات التي تتطور سنة بعد سنة «مهرجان الطلاب»، الذي تحول هذه السنة إلى مهرجان «الفيلم العربي القصير»، الذي ينظمه «نادي لكل الناس». واعتمدت التظاهرة في دورتها الأخيرة توسيع نطاق استضافتها أعمالاً عربية تبحث في قضايا الهوية والانتماء، فبرزت المشاركة المغربية بتحررها من العادات والتقاليد، وتقنية عالية في استعمال الصورة بدلاً من الاستعانة بنص أو سيناريو.