مضى «السيد» إلى إغفاءة أبدية، ولاذ بصمت كنّا نحتسبه قيلولة متعَب أنهكته التهدّمات المتواصلة في المعاني والمباني، بعدما فتك به الأمل. غابت طلة «السيد» هاني فحص، بعد ودّ القلب أن يكون الغياب عابراً وطارئاً، فينهض ويُنهضنا «السيد» الذي يعدّ علامة وضّاءة في الفكر الديني المعاصر لا يضاهيه فيها سوى عدد قليل من أصحاب العمائم الذين عبروا الأزمنة، وتعالوا على الانقسام والتمذهب والتطييف. هاني فحص، الذي سألتُه لدى لقائي به، قبل أشهر، في مراكش في مؤتمر «مؤمنون بلا حدود» بأي الألقاب تحبّ أن تُنادى، فقال ب «السيّد»، على رغم أنه سيّد وعلاّمة في الفكر والفقه وفي الشعر وفي الثقافة وفي التنوير، وفي النزوع العلماني نحو مدنية الدولة والمواطنة، والتفكير بعقل كوني عصيّ على التصنيف والتدجين والأدلجة. ظل «السيد» المتنوّر المنفتح، المتعدد يهدم الأسوار، ويقتحم الحصون، ويسائل مسلّمات العقل الإسلامي، ويشتبك مع الخطوط الحمر، ويضيء أفكاراً ورؤى، ويفيض محبة. وكان خصومه هم خصوم الحياة بكل ما فيها من خير وخبز وعدل وتوق إلى الحرية والانعتاق. كان «السيد» حاسماً ودقيقاً ومحدّداً. لم تغرِه لعبة «الثلاث ورقات»، والقفز فوق الحبال، والتلوّن وفق ريح المصالح والاستقطابات، وظل لبنانياً فلسطينياً عروبياً كونياً يطوي تحت عباءته إشراقات المتصوفة، وجدل المعتزلة، وعقلانية ابن رشد، وجموح أبي ذر الغفاري، وحكمة النجف، وأخلاقية كانط، وحلم ماركس بتغيير العالم. ينتسب صاحب «أوراق من دفتر الولد العاملي» إلى زمان لم يعرف الاعتدال والتسامح، وعلى رغم ذلك اختار ذيْنك السبيلين ليكونا درباً نحو المساواة وإنصاف المحرومين. وجهر بذلك بصوته البليغ الذي لم يعرف التأتأة. وفي زمن الاحتماء بالمقدس، والقتل باسمه، وغمْر الحياة بنصوصه، وأسلمة الدولة والمجتمع والحركات والسكنات وما تخفي الصدور، كان «السيد» يتخفف من سجن العمامة «الموهوم» ويصدح بأن «الإسلام السياسي مرض السنّة والشيعة»، وبأن النص الديني يتعين أن يتعاضد مع المسلك التاريخي، مؤكداً صرخة شيخه علي عبدالرازق بأن ليس ثمة «اقتراح لدولة دينية في النص التأسيسي الإسلامي، وإنما هو وصف لمجتمع تعددي حيوي وعادل، والدولة من ضروراته». ولم يتردد «السيد» في خوض غمار الأسئلة الشائكة، ولم ينزوِ إلى تأمل المثقفين المترفين الذين ينظرون إلى الشارع من ثقب شرفاتهم العالية، بل مضى يجادل ويساجل، وينفذ إلى التخوم المفخخة بلا وجل أو حسابات سياسية أو رهانات فئوية ضيقة. فالحوار بين المجتمع والدولة، ضروري إذا كان الهدف انتصار الدين وعودته إلى مكانته، شريطة ألا يكون مضطراً الى إنتاج الدولة، فلو أنتج الدين الدولة، كما يرى «السيد»، فسَيُفسِدُها ويَفسُد بها، وإذا أنتجَته فسَتُفسِدُه وتَفسُد به، لأنهما حقلان معرفيان وعمليان مختلفان يجب أن يتكاملا، ويجب ألا يبني أحدهما الآخر. وحل هذه المعضلة، في نظره، لن يكون سوى بالتنوير وإنشاء الدولة؛ فالدين ليس حلاً، بل الدولة هي الحل. هذا الصوت، ضروريٌ في هذه القنطرة الرهيبة المدججة بالخوف والقلق والتطييف وانفجار المذهبيات وتمزّق الخرائط وتجريف العقل.