المكان الأول: ساحة تياننمان في العاصمة الصينية بيجنغ. الزمان: أواسط سنوات الثمانين من القرن المنصرم. المشهد تلفزيوني بامتياز. فالكاميرا هناك، وهناك أيضاً من عمق الكادر رتل من الدبابات الحكومية يتقدم في اتجاه مقدمة الصورة. يصل الرتل إلى نقطة يظهر عندها رجل يحمل كيساً ويتوقف بشكل مباغت في وجه الزحف المدرع. تتوقف الدبابة الأولى في محاذاة الرجل لتتوقف الدبابات الباقية بعدها مباشرة. يُطلب من الرجل أن يزيح عن الطريق. يرفض. بل يقترب من الدبابة أكثر. يُصرخ به من جديد أن يبتعد. يتجاهل الصراخ. يحاول سائق الدبابة الانحراف نحو اليمين لمتابعة طريقه وتفادي ذلك العابر «المجنون». لكن العابر يزيح من جديد مع الدبابة مانعاً إياها من التقدم. ينحرف السائق بدبابته يساراً. فينحرف العابر يساراً وهكذا... لأكثر من ربع قرن من الزمان، اعتبر ذلك المشهد أمراً استثنائياً، بل كذلك كناية عن شعب يريد مواجهة آلة القمع السلطوي عاري الصدر واليدين. والآن إلى المكان الثاني: قرية سورية نصف مهدمة. والزمان: قبل أيام من الآن. الكاميرا ثابتة في ساحة القرية لا تتحرك. وفي المشهد وسط الساحة رجل مسجّى على الأرض من دون حراك. ثمة عند بعض الأبواب وزوايا الطرقات رجال وشبان مختبئون ينظرون بهلع إلى المصاب من دون أن يجرؤ أي منهم على الاقتراب منه لإنقاذه. فهو والساحة كلها في مرمى نيران قناص يتحكم بالمكان. وهكذا، كلما حاول أحد التحرك، يطلق القناص رصاصاته. واضح أنه يريد للمصاب أن يبقى هناك وينزف حتى يموت. فجأة تظهر من المقدمة اليمنى للكادر امرأة ترتدي ثياباً مغرقة في السواد وعلى رأسها ووجهها حجاب يغطيهما تماماً. إنها ممشوقة القامة نحيلة – ربما من الجوع – لكنها تتقدم بخطى ثابتة مصممة. من الواضح أنها لا تأبه لرصاص القناص. في ثوان وبكل هدوء وثقة، تصل السيدة إلى المصاب وتنحني عليه محاولة سحبه فيما الآخرون ينظرون إليها بدهشة مذهلة. ما إن ترفع يده حتى يركض نحوها شاب أو اثنين ثم ثالث، مترددين أول الأمر ولكن متشجعين بعد ذلك، بجرأة السيدة على الأقل. يساعد الشبان السيدة على حمل المصاب والركوض به. هم منحنون يكادون يختبئون بها. أما هي فهادئة واثقة الخطى تحمل الشاب معهم... وهنا، يندلع رصاص القناص. فيسرع الشبان، يكادون يتعثّرون بحملهم وخوفهم. أما السيدة فلا يبدو عليها أي تردد وخوف... بل تبدو لوهلة وكأنها باتت تحمل المصاب وحدها... ويخرج الجميع من حقل الكاميرا. نعرف أن هذه السيدة ستظل مجهولة إلى الأبد... تماماً كما ظل عابر ساحة تيتننمان مجهولاً. غير أن صورتها، كصورته، ستبقى بالتأكيد حية إلى الأبد... لتصبح بدورها كناية عن شعب يريد أن يجابه مهما كان رصاص القناصين قاتلاً، وعن شعب يحب الحياة لنفسه وللآخرين، ولا يبالي حتى بالموت في سبيل الحياة.