سيظل يوم 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010 تاريخاً رمزياً لانطلاقة الربيع العربي، مع أنّ التاريخ سيصوّب الكثير من المعلومات التي انتشرت حول أحداث ذلك اليوم، ولكل ثورة بداية لولا طابعها الرومنطيقي لما نجحت في تحقيق التعبئة ودفع الأمل بالتغيير في نفوس الناس. فحادثة إحراق الشهيد محمد البوعزيزي لنفسه يوم 17 ديسمبر، في مدينة سيدي بوزيدالتونسية، هي بمثابة اقتحام الباستيل بالنسبة إلى الثورة التونسية. إنها الحدث الذي أصبح أسطورة لتترتب عليه أحداث كثيرة أخرى. محمد البوعزيزي كان شاباً عاديّاً، لا ينتمي إلى أي حزب سياسي، لم يقرأ سيد قطب ولا كارل ماركس. ولم يختر من تلقاء نفسه أن يكون بطلاً ولا خطر على باله أن يرتبط اسمه بأحد أهمّ أحداث العصر. لكنّ هذا الجانب التلقائي والعفوي هو الذي منح الحدث سحريته، فالنظام الذي كان متعوّداً على محاربة اليساريين بتهمة الإلحاد، والإسلاميين بتهمة الإرهاب، وجد نفسه فجأة أمام بائع خضار، وارتبك وكان ارتباكه بداية تهاويه، وانتشرت في تونس عبارة «البائع المتجوّل الذي أسقط صانع التحوّل (أي زين العابدين بن علي)». صحيح أن التاريخ لن يختزل الثورات العربية في تلك الحادثة ولا في هذه العبارة، لكن الصحيح أيضاً أن تاريخ 17 ديسمبر سيظل مؤرقاً لكثيرين، لأنه سيذكّر بأن من استفادوا من الثورات ليسوا دائماً من أطلقوها. ولقد بُذِلت وتبذل محاولات لفسخ هذا التاريخ، واستنجد بكتب الفقه لرفع صفة الشهيد التي ألصقتها الجماهير باسم البوعزيزي، وتعرّضت أسرته لحملات كثيرة قصدها التشويه، وحوكمت والدة البوعزيزي بعد الثورة بتهمة التطاول على المحكمة، على رغم كثرة المتطاولين الذين لم يحاكموا، وسعى عديدون إلى إقناعنا بأن الثورة خرجت من عباءة هذا الشيخ أو ذاك. مع ذلك سيكون من العسير تحريف تاريخ الربيع العربي وفسخ ذاكرة يوم 17 ديسمبر، وسيكون من الصعب نسيان أن الربيع العربي بدأ في شكل حركة احتجاجية ضد الظلم ولم يكن في الأصل مشروعاً حزبياً أو أيديولوجياً. ولئن كان طبيعياً أن تسير الأوضاع بعد ذلك في اتجاه تغليب منطق الدولة على منطق الثورة، فإن الأجهزة الأيديولوجية الجديدة لن تلغي التاريخ الرومنطيقي للثورة، لسبب بسيط هو أنها لن تنجح في تحقيق أهداف الثورة فضلاً عن أحلامها، فتظل اللحظة الرومنطيقية المؤسسة، قوية في النفوس قوة كل الأحلام التي لم تتحقق ولا يمكن أن تتحقّق كلّها. لكنّ المطلوب على الأقلّ ألاّ يُنسى الفضل الكبير لهؤلاء الناس البسطاء في تحرير المناضلين السياسيين والمثقفين والزعماء من الخوف واليأس، وأن تقسّم ثمار الثورة على هؤلاء الذين أطلقوها ولا تتحوّل غنيمة يحتكرها الحكّام الجّدد، وأن لا يَطغى مجدداً الإحساس بالظلم والقهر، بما يجعل العالم العربي ثورات متلاحقة من دون تحقيق نتيجة حاسمة. ولم يكن تدهور الأوضاع الاجتماعية في تونس نهاية 2012 إلا نتيجة الانحراف عن الأهداف الاجتماعية الذي ما فتئ يتعمق شيئاً فشيئاً. وجاءت أحداث محافظة سليانة لتضع الجميع أمام حقيقة أساسية، هي أن المطالب الاجتماعية للثورة لم تتحقّق، وأن حكومة الثورة أصبحت مضطرّة لاستعمال العنف ضدّ من أوصلوها إلى الحكم، وأن حركة «النهضة» فقدت حظوتها لدى الطبقات الشعبية. فجهة سليانة التي تعتبر من أكثر الجهات فقراً في تونس، كانت صوتت بنسبة 33,3 في المئة لحركة «النهضة»، تليها قائمة «العريضة الشعبية» المنشقة عن «النهضة» بنسبة 16,7 في المئة، أي أن الفصيلين الإسلامِيَّيْن حصلا معاً على 50 في المئة من أصوات الناخبين، بينما لم تحصل قائمة «البديل الثوري» اليسارية إلا على 16,6 في المئة. هذه كانت نتائج انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) 2011. لكن يأس أهالي سليانة من تحسين أوضاعهم الاجتماعية دفعهم إلى انتفاضة حقيقية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، واجهتها حكومة السيد الجبالي باستعمال أسلحة خطيرة (البارود الانشطاري أو ما يعرف في تونس بالرشّ) وبعنف شديد. ثم جاءت بعدها حادثة المنصة ورشق الرئيس الموقت المنصف المرزوقي بالحجارة والبطاطا، وإجبار الوفد الحكومي على مغادرة المنصة وقد جاء إلى منطقة سيدي بوزيد للاحتفال بالذكرى الثانية للثورة، ثم تسلّق الجمهور المنصة ذاتها واعتلاها، في صورة رمزية لتمسكه بالسيادة والفعل. لا اعتقد بأن من الحكمة تضخيم هذين الحادثين، ولا قبول العنف مهما كانت مشروعية المطالب، ولا الدعوة إلى ثورة جديدة. لكن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح بقوة هو التالي: متى ستدرك الطبقة السياسية التونسية، ومنها حركة «النهضة»، أنها أخطأت الطريق عندما حوّلت ثورة اجتماعية من أجل الكرامة والحرية إلى عراك أيديولوجي عقيم لنخبة مرفّهة لم تعانِ آثار السياسات التنموية غير المتكافئة في العهد السابق، ولا تعاني الآثار الاقتصادية السلبية الناتجة من الثورة ذاتها؟