سقوط النظام مؤكد، لكن انتصار المعارضة يحتاج الى تحصين وتأمين، إلا أن القوى الدولية لا تزال تفضّل محاربة النظام بدماء السوريين. اللحظة الآن بالغة الصعوبة، فالسقوط لم يعد مجرد «رهان»، وفق توصيف الأمين العام ل «حزب الله» الذي يعتبره «رهاناً خاطئاً»، بل أصبح واقعاً مجسّداً على الأرض. لم يعد استمرار القدرة على القتل وتدمير المخابز ومحطات الوقود مؤشراً على تمتع النظام بالقوة والعافية. ولا يشكّل انحسار الدولة بوظائفها الأساسية المعهودة دليل بقاء للنظام. ولا يشير البحث الاميركي - الروسي عن سيناريو نهاية منسّقة للأزمة الى أن النظام سيكون جزءاً من المرحلة المقبلة. ولا تفسير لترحيب الرئيس الروسي بالمبادرة التركية «المبتكرة» سوى أن موسكو تبحث عن مخرج. في هذا السياق لا يعني الظهور المفاجئ والحديث المبرمج لنائب الرئيس فاروق الشرع أن النظام محتفظ بصلابته. وهو ما ينعكس بقوله إن أياً من النظام أو المعارضة لا يمكنه حسم النزاع. فهذه معادلة يعترف بها النظام للمرة الأولى، وإنْ كان استخدمها أمام المبعوثين الدوليين للمحاججة بأن الحل يجب أن يكون سياسياً، لكن وفقاً ل «رؤيته». كان الشرع يرد على نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الذي صرّح بأن المعارضة «يمكن أن تنتصر»، كما ردّ عليه حسن نصرالله. هذا التقويم/ الإنذار الروسي هو ما دفع النظام الى الترخيص للشرع بالخروج الى الضوء وبتقديم نسخة منقحة ل «الحل» الذي «يجب أن يكون سورياً» لكن بصياغة جديدة عبّر عنها ب «نحن يجب أن نكون في موقع الدفاع عن وجود سورية، ولسنا في معركة وجود لفردٍ أو نظام». لكنّ هناك شيئاً آخر، هو أن محادثات دبلن (كلينتون - لافروف - الابراهيمي) ثم جنيف (بيرنز - بوغدانوف - الابراهيمي) تطرقت الى إحياء «سيناريو الشرع» للمرحلة الانتقالية من خلال تشكيل «حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات واسعة»، أي العودة الى «السيناريو اليمني المعدّل» الذي كانت موسكو طرحته تسريباً منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 ثم أعاد وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو طرحه تصريحاً في تشرين الأول (اكتوبر) 2012. كان النظام أطاح هذا الاقتراح الذي شكّل أساس المبادرة العربية ثم «اتفاق جنيف»، كما بدّد سواه، اذ كان مقتنعاً بأن الحسم العسكري في متناوله. لكن يبدو أن وصول الثوار الى محيط القصر الرئاسي ومثول النهاية أمام الأنظار أجبراه على شيء من البراغماتية، فهل إن اعادة الشرع الى الواجهة بداية موافقة على «نقل السلطة»، خصوصاً أن «كل يوم يمرّ يبتعد معه الحل عسكرياً وسياسياً»، كما قال؟ لا شيء مؤكداً، فالصياغة الجديدة ل «الحل السوري» تريده «من خلال تسوية تاريخية تشمل الدول الاقليمية الأساسية والدول الأعضاء في مجلس الأمن». ماذا يعني ذلك؟ عدا أن النظام يعيد طرح نفسه لاعباً ومديراً ل «الحل»، فإنه يعتزم توظيف الشرع على نحوٍ مختلف عما تتصوّره القوى الدولية. وعدا أن الحديث عن «تسوية تاريخية» اقليمية - دولية يشير طبعاً الى اشراك ايران، فإنه لا يناقض مفهوم «الحل السوري» فحسب، بل يُراد منه فتح خرائط «سايكس – بيكو» بحثاً عن صيغة جديدة لحماية الاقليات وإرضائها. لكن، أين «الدفاع عن وجود سورية» هنا؟ وهل خطّط الشرع أو شارك في تخطيط الدور الذي يمكن أن يُدفع اليه، وهل يستطيع رفضه اذا خالف قناعاته؟ لا معنى للدفاع عن «وجود سورية» اذا لم يكن دفاعاً عن وحدتها، والحال أن نظاماً يهجس بوحدة البلد شعباً ودولةً وأرضاً لا يمكن أن يقدم على هذا التدمير المنهجي للمدن والبلدات وللتراث والثروات، بل هو نظام ينفذ شعار «شبيحته» (الاسد أو لا أحد) أو قولهم «لن يبقى حجر على حجر»، ما يشي بأن هذا ما يفهمه النظام في شأن الإطار الاقليمي - الدولي ل «الحل»... أي أنه ينطوي على خيارين: التهديد بتصدير الأزمة اقليمياً، أو الشروع في مساومة كبرى. ما يقلق النظام أن أحداً - ولا حتى روسيا - لا يحادثه في ما يُطبخ من سيناريوات، لذلك فإن حديث الشرع ومضمونه يفيدان بأن «رسائله» الاخرى عبر المجازر والقصف الجوي والتصعيد الجنوني، بما فيها التلويح بالسلاح الكيماوي، لم تكن مجدية، لذلك رأى أن يرفع ورقة فاروق الشرع ليقول إنه جاهز للمساومة. ومن الواضح أن هذه الخطوة جاءت منسّقة مع الحليف الايراني الذي استقبل الاعتراف الدولي ب «الائتلاف الوطني السوري» بإعلان أنه لن يسمح بإسقاط النظام السوري، ثم أوعز لنصرالله بأن يقول ما قاله الشرع، لكن بلهجة متشددة وهجومية، ما أوحى بأن «الخط السوري – الايراني» لم يقل كلمته الاخيرة اذ لا يزال لديه «سيناريو يوم القيامة» لتدمير دمشق وإيصال أهلها، كأهل حلب، الى حافة المجاعة. وقد بلغت به الحقارة حدّ قصف المخابز في حلب أو شاحنات التموين الآتية اليها، ومن ثمَّ ارسال آلاف ربطات الخبز الموسومة بصورة الاسد وشعار «منحبّك». بالتزامن مع ذلك، عمدت طهران الى كشف تفاصيل «خطة الخروج من الأزمة» التي كانت قدّمتها الى الأخضر الابراهيمي. والأكيد أنها كشفتها بعدما أيقنت أن القوى الدولية لم تعرها أي قيمة، ولتقول أيضاً إن أي حل خارج هذه الخطة، التي تمثل وجهة نظر النظام السوري، لن يُكتب له النجاح. كانت «الخطّة» بُنيت على أساسين تخطّتهما الأحداث (وقف أعمال العنف، وحوار وطني) وأمعن النظام نفسه في إفشالهما، لأنه لا يستطيع وقف النار ويريد حواراً تحت سيطرته. وإذ يقول الشرع إن الاسد أراد أن يحسم عسكرياً قبل أن يذهب الى حل سياسي، فمن الواضح الآن أنه خسر الأمرين معاً، ولم يعد أمامه سوى خيارين: الرحيل، أو الانكفاء الى منطقته على الساحل. تجدّد الحديث عن «الرحيل» في إطار محاولة التقارب الاميركية - الروسية للحؤول دون السقوط المفاجئ أو الانهيار السريع للنظام، وبالتالي لإعداد نهاية متفاوض عليها. لا يبدو أن «المبادرة التركية» بعيدة من هذه الهواجس، فهي تلحظ ضرورة تنحي الرئيس لتصبح المرحلة الانتقالية متاحة، والتنحي يعني هنا الرحيل، بل ان هناك مَن يهتم بوضع قائمة بما لا يقل عن خمسين عسكرياً يمكن أن يغادروا مع الاسد، وقيل إن عدداً من هؤلاء سبق لهم أن هرّبوا أموالهم كما رحّلوا عائلاتهم أو معظمها، إمّا الى لبنان أو الى الإمارات. ويعني الرحيل أيضاً خسارة فعلية للنظام ولحليفه الايراني وأن «التسوية التاريخية» وفقاً للتخطيط الايراني – الاسدي ليست واردة، على رغم أن القوى الدولية ترغب في ايجاد أي وسيلة متفق عليها لضمان عدم التعرّض للأقليات وبالأخص العلوية. قد تكون الورقة الأخيرة في يد النظام أن ينكفئ مع «شبّيحته» الى الساحل، على أن يستبقه بالحصول على ضمانات دولية ل «الكيان العلوي» الذي بات يطمح الى جعله «موطن الأقليات» الموصول جغرافياً بلبنان. ومن أجل تلك الضمانات قد يعمد الى تأجيج المواجهات الطائفية في سورية كما في لبنان، ما يوجب إقحام «حزب الله» أكثر فأكثر في القتال. ويبدو «الكيان العلوي» كذلك ورقة أخيرة لإيران لتفادي خسارة كاملة في سورية، قد تتبعها استطراداً خسارة في لبنان. الأسابيع المقبلة حتى آذار (مارس) ستكون بلا شك مرحلة كل المخاطر في سورية. * كاتب وصحافي لبناني