هي قنبلة انفجرت في سماء السياسة المصرية من دون توقع وتطايرت شظاياها إلى مسافات بعيدة جداً. بل إن الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس محمد مرسي أوشك أن يتحول إلى إعلان حرب بين جبهات، تتصف بالسيولة بأكثر مما تتصف بالوضوح. فالثوار بين مؤيد لما بدا أنه الممكن من مطالبات بعدالة ثورية، وبين رافض لما يراه حكماً بالإعدام على ديموقراطية وليدة. هكذا سقطت عجلات عربة مدرعة اسمها «تحصين قرارات الرئيس». والقضاة وجدوا أنفسهم فجأة أمام عدوان وصفه المجلس الأعلى للقضاء (جهة رسمية) بغير المسبوق. وانشطرت حركة ساهمت في رسم المشهد السياسي في السنوات الأخيرة من عهد مبارك بدور كبير هي حركة «استقلال القضاء». فالحركة الأم عارضت المرسوم بأقصى درجات الحدة والشدة، فيما حركة «قضاة من أجل مصر» الأكثر دفاعاً عن المصالح السياسية المباشرة لجماعة الإخوان المسلمين، دافعت عنه بشراسة. وعلى رغم أن مجلس إدارة نادي القضاة الحالية برئاسة المستشار أحمد الزند كانت لديه أسباب عدة للوقوف في وجه الإعلان الدستوري، إلا ان هيئات أخرى تمثل بعض مؤسسات القضاء المصري (جمعيات عمومية ونوادٍ فرعية) دانت بقوة، فتغيرت وجهة التصنيف، ولو جزئياً. وكانت المفارقة الكبرى في موقف التيار السلفي الذي عبر عن التحفظ بوضوح، ولأسباب شرعية، على تحصين قرارات الرئيس، وعلى رغم هذا ساهم بقوة في مليونية «الشرعية والشريعة»، تأييداً لإعلان دستوري فيه خطأ شرعي بيِّن. وارتدت موجة الانقسام إلى ميدان التحرير الذي احتشدت فيه أطياف شتى من قوى ثورية وتقليدية جمعها رفض الإعلان، فيما رئاسة الجمهورية تصب الزيت على النار بالسير بسرعة في التصويت على مسودة دستور هي في المقام الأول ثمرة تحالف إخواني/ سلفي وتعبير شديد الإخلاص عن ثقافة سياسية محافظة ذات مزاج ريفي واضح، مسوّدةٍ لا تكاد تقيم وزناً لأي اعتبار ثوري ولا تعزز أي قيمة «مدينية». وكأن مسودة الدستور إعلان عن وفاة «المدينة» وصعود «قيم الريف» متخفية في ثوب ديني، ونهاية حقوق الدين التي يقرها وتنكرها الثقافة المحافظة، وهي بالتالي تفضل قمعها باسم «المجتمع». والخطير في الأمر أن التوازن بين الجماعية والفردية، و «الصعود» من مرحلة ما قبل المدينة (ريفية كانت أو بدوية) هما من أروع ما قدمه الإسلام للاجتماع الإنساني من عطاء تنكر له التحالف الإخواني/ السلفي من دون تردد، فضلاً عن أنهما، كما تؤكد تجارب الأمم الأخرى وسنن الاجتماع الإنساني المختلفة، أحد أهم عوامل النهوض، ما يعني أنهم يشيّعون حلم «النهضة» إلى مثواه الأخير، ليفوزوا بالسلطة. والمسودة التي سرعان ما ستحتل واجهة المشهد، بعد مسرحية سياسية شعبوية، تمجد إلى درجة التقديس قرار الرئيس بإنزال قراراته من على «عرش التقديس»، بإلغاء الإعلان الدستوري. ومع تكاثف غيوم الشره إلى السلطة، لا يرى الإخوان والسلفيون الشظية القاتلة التي أصابت صدقية الحركة الإسلامية، وهم، على الأرجح، لن يربحوا المشروعية. * كاتب مصري