يستدعي القاص حسن دعبل، التاريخ، لكن ببعده المثيلوجي، عبر نصوص تشتم منها عن بعد رائحة شغف لا محدود ب«الأسطورة»، ولأنه لا يعطي نفسه مهلة للتفكير بمعضلة تجنيسها، لا يهتم أيضاً بالنقاش الدائر، هل تمتلك نصوصه تلك مقومات القصة، أم لا؟ وفي الوقت الذي تدفعه رؤيته الثقافية إلى مقاطعة الأندية الأدبية، يرفض دعبل استجداء الغير كي يكتب عنه. «الحياة»، التقته في حوار مواجهة جريء، وخاضت معه في قضايا ومواضيع تخص تجربته المتفردة، وكذلك ما له علاقة بالمشهد الثقافي. هنا نص الحوار: ما سبب قطيعة حسن دعبل مع المؤسسات الثقافية المحلية، خصوصاً الأندية الأدبية؟ وهل سيتغير الوضع حالياً، في ظل عودة الانتخابات؟ - لم تكن قطيعتي مع هذه المؤسسات لنرجسية مبدع، إنما من وعي ثقافي أحمله معي كمجسة أولى لرؤيتي الثقافية، ولم تكن تلك القطيعة انزواء شخصياً وقطيعة تامة لكتابةٍ أو همٍّ ثقافي، فقد كتبت موضوعين في صحيفة «الاقتصادية» وقتها وسميتهما: «بيادق ما بعد الحداثة»، و«الجذام الثقافي»، هي تلك مجستي الأولى لما توهم به الآخر من هذا التغيير، أو هذه الصبغة الحداثية لأسماء كتبوا ولبسوا نصوصاً حداثية، أو أسماء غابوا لعقدين وأكثر، وفجأةً فُتحتْ لهم الأبواب بمصراعيها. الكتابة المضادة ليست قطيعة والرؤية المختلفة ليست خصومة، إنما رؤية ثقافية مشتركة ومختلفة لحوار مثرٍ لساحة تفتقر أو لنقل جدباء وقاحطة لما سميتهم ببيادق ما بعد الحداثة، وكنت أعني ببيدق، هو من دخل اللعبة بشرطه وخياره الثقافي، وليس بخيار الآخر أو المؤسسة التي أوجدته كاسم ثقافي في أروقتها ومحافلها، أو ككائن أحب له أو اختار البقاء، حيث الظل الواقي من حرارة الرؤية والمفردة والموقف. ماذا تغير إذاً في هذه الأبنية التي تحمل أسماءها الأدبية؟ - الأشخاص، الأثاث، الأمسيات، بالوتيرة نفسها مشت القافلة، أمسيات، ولقاءات، ونشاطات مبعثرة من هنا وهناك، على شكل جداول مبرمجة كسائر الشركات أو المؤسسات العادية؛ هل تفاعل هؤلاء مع من اختلفوا معهم في الرؤية الثقافية والمنجز؟ هل تواصلوا أو مدوا أيديهم مع من اتهموهم بالجفاء والقطيعة؟ وغير هذا هل تفاعلوا وقرأوا عن هذا المكان التاريخي، الذي حملوا اسمه على مبنى أدبي، وحتى المجلة التي بقيت على عذريتها، وأعني مجلة «دارين»، وهو ما تبقى من إرث قديم أو ذاك الإرث لما قبل ما بعد الحداثة، وهي التباسة مخجلة أوجدها «العبيد» الرئيس السابق للنادي الأدبي، فأطلق الاسم لشروط متوترة ومجحدة في تلك الفترة، وليست لشروطٍ تاريخية أو مكانية، وهو وفاء لتلك الفترة «المغبرة» لسنوات ما قبل الحداثة؛ فماذا يعني لمجلة يصرف عليها كل هذه المبالغ والتي تكفي لإصدار أعداد لمجلات ثقافية أصدرها مثقفون في المهاجر على زاد كفافهم فأربكوا وأثروا الساحات الثقافية العربية بإمكاناتهم البسيطة. فكل الأعداد التي صدرت من مجلة «دارين» الثقافية، وليست دارين التاريخية التي تجلس قربي الآن، لم تخاطب أو تتكلم عن هذا الثوب الذي تزينت به أو أهداه لها شعراء الحداثة. ألا تكفي هذا الحفرية الأخيرة في دارين، والتي غطتها صحيفتكم «الحياة» وكتبتْ عنها بشكل مميز؟ ألا تستقطبهم هذه القراءات والمعثورات التي استخرجتْ من ملكوت أرضها لخلق أو لمد جسر من التواصل مع أمكنة ثقافية تنشر عبقها بين صفحات لاسم سرقوه من شرفة التاريخ؟ مع من القطيعة؟ مع مثقف لا ينظر للثقافة أو أبنيتها ونشاطاتها، سوى مكان يجذي به وقته الفارغ، أو شركة ينتظر راتبها الشهري بانتظام، أو سوق لكسب الأتاوات والكمسيون بشرط استجلاب المعونات من الشركات بغرض الفائدة. هل هؤلاء مثقفون تحرقهم الرؤية والتاريخ والزمان؟ أظننا نحتاج إلى وقفةٍ مع أنفسنا ولو للحظةٍ صادقة، ونزع ذاك الثوب الرديني المصبوغ بالأقاويل الفارغة والأكذوبات حتى الصغيرة منها ورميها في البحر حتى تتطهر ونتطهر من خداعنا لأنفسنا. في ظل اللائحة الجديدة، هل سترشح نفسك؟ أم تكتفي بالتصويت؟ - لم تتضح الرؤية لي، ولا أجد الرغبة تستهويني للدخول في هذا العراك المبرمج، أجدني كالطير أحلّق بعيداً بكتابٍ أحمله، أو أغنية تسبح بي كموجة تطوي صفحات كتابي وأنا أمد بصري شاخصاً في البحر الذي يحضنني. ولماذا يُحتفى بكتابك الجديد في بلد عربي، في حين لا نجد له احتفاء مماثلاً أو بأي من كتابيك السابقين محلياً؟ - لا أملك الإجابة المحرضة على السؤال نفسه، ولم تسكنني لحظةٌ من هذا الغبن أو الحزن واليأس أو الاستجداء للغير كي يكتب عني هنا؛ يكفيني اسم لا أعرفه ولم التقِ به ليكتب عن مجموعة أو نص حرّضه على الكتابة والتواصل والاحتفاء، تلك ميزة القراءات العابرة، وذاك خذلان لمن يستجلب المطر بعد العطش والجدب. لا تستغربي فقد أوصلتُ مجموعتي الثانية «ما تيسر له» لغالبية الوجوه الثقافية هنا، وهي ميزة لا أجيد صنعها إنما بمعونة أعزاءٍ استدرجوني لهذه الخطوة، فالكتاب يتيمٌ في أرضه. إلى أي جنس أدبي يمكن أن تصنف أنت نصوصك خصوصاً مع ما تثيره في الوسط الثقافي من جدل، كونها هل يمكن أن تكون نصوصاً قصصية، أم لا؟ - لم أعط نفسي مهلة للتفكير بمعضلة التجنيس ولم أؤرقها بهذا الالتباس ومعوقاته، عندما قرأت يوماً ما عبارة «في البدء، أعطت الكلمةُ الأبَ أصله»، أو عندما قرأت في «الأينوما ليتش»: حينما في الأعالي لم تكن السماء بعد قد سميت، وفي الأسافل لم تكن الأرض بعد قد ذكرت باسم. لم أجهد نفسي بذاك السؤال التائه أو السابح في أفق العماء عن جنس هذه المفردات، كنتُ ذائباً حد الغياب في سحر المفردة وملكوت السؤال، لهذا لم أكن معنياً بتجنيس ما أكتبه كي أمنحه شرعية الولادة أو لأي أب ينتمي. فإذا كان ما أكتبه من نصوص محفزة لإثارة الجدل والسؤال عن ماهيتها وجنسها وأصلها وفصلها، فلتكن، وللآخر حق التصنيف حيث ما يراه ويلائم ذائقته ووعيه وحيرته. فلتكن نصوصي حمالة أوجه. يقال إنك مهموم باستدعاء التاريخ، أكثر من همك بالاشتغال على جنس أدبي معيّن، أنت ماذا تقول؟ - التاريخ الذي أغيب به وفيه، ليس ذاك التاريخ أو القراءة الكلاسيكية لاستدعاء المكان برؤيته الضيقة أو الناقصة أو ما كتبه السلطان ووعاظه أو أمر كتابه وقواده الحربيين، أو بلدانييه؛ أقرأ التاريخ ببعده المثيلوجي أو الأسطوري، لما يحمله لي من محفزات واستدعاءات أزلية للمرور أو حتى للنصوص التي أكتبها، حين أعجنها بيدي مستدعياً عبارات ومفردات غائبة عن الوعي الحاضر أو بأمثولة أسطورية أحررها بكلماتي العابرة إلى داخل النص بعبور تاريخي لأمم وأجناسٍ وبشر وعابرين، حتى أن القارئ يشعر بانفلاتاتٍ مؤرقة للنص الذي لم أصنفه أو أصهره بقالب أدبي تعوده قبل قراءته، أو ذُيلَ بماهيته الأدبية المعتادة؛ ربما أصوغ المفردات والعبارات بماء الذهب، كصابئي اغتسل للتو بطهارة الماء الجاري، هكذا أهيم في الكتابة لأبعد إشارة أو نجمة سيارةٍ في أفق بعيد. لحظة الكتابة أراني أسافر كثيراً في ما قرأته عن المثيلوجيا والحضارات والتاريخ البعيد، وربما تراءى لي جسد «انكيدو» مسجى وصرخات جلجامش تفطر الأفق. لماذا جاءت مجموعتك الثالثة البحبوح بعد نحو عقد من الزمن عن سابقتها «ما تيسر له»؟ - لا أكتب ضمن برمجة زمنية أو عبر أفق معين للزمن، الكم الكتابي لا يعني لي متوالية حسابية، أو عقوداً مذيلة، الكتابة عندي ضمن أفق التراكم القرائي غير المنتظم، أو لأقل غير المعني بالوقت، أجدني لاهثاً للكتب نهماً قارئاً، باحثاً عن سرّ طقوس وعبادات وأضرحة، وأجدني كسولاً متململاً حد الحسرة على كتابة مفردة تليق بذاك الطقس أو تلك الأعياد، وربما تترك انطباعاً عند المتلقي أو المتابع بأنني كائن غائب وكسول. ما سر اتكاء كتاباتك بشكل رئيسي على عنصر المكان؟ - أنا ابن هذا المكان التاريخي، ببحره وواحاته وشساعة صحرائه ونجوده البارده. لست عابراً للمكان كتائهٍ أو غريب، وحدي من سرق القمر ودارى شحوبه بعزلةٍ، وحدي من تاهت عزلته على بحر يراقب مراكب أجداده ويحصي أشرعتهم نهاراً؛ كنت أهيم في بساتين جزيرةٍ مسيجة ببحر ونخيل وتزدان «بأسياف» رمالها كالذهب. أنا ابن هذه الأرض أو هذا المكان الدلموني الذي أسكر ملوك التاريخ وسحر قلوبهم، وتاقت لمدافنه المائية وخلوده. من هنا مرّت الرسل وأقام الملوك والشعراء، من هنا مرّت الأشعار والأسفار والرحالة والعابرون؛ من هنا مرّت أمم وأقوام وحضارات وأسياد وعبيد؛ في هذا المكان وفي الألف الثالث ق.م، حيث تبلبلت الألسن لكثرتها وازدهرت تجارتها وحياتها، مرّت سفن ملوخا وماجان وأبحرت مع سفن دلمون إلى أكد. من هنا كان سرجون يدعو ويبارك هذه السفن حين خرّ راكعاً ليبارك رسوها في موانئه، من هنا مرّ الإسكندر وقواده، حيث طاف جلجامش مودعاً «سيدوري» وهو يهيم بضياعه الأبدي عن سرّ الموت وخلوده وعشبةٍ تنام في أعماق هذا البحر. ألا يكفي هذا التوق لجزيرةٍ تنام على كنوزها وأسرارها وقبورها، ألا تكفيني إشراقة شمس صافية ونسمات رطبة لأستنطق البحر عن سرّ من مروا خفافاً وتاهت خطوهم، أو من توهموا بخلودٍ أو من بحثوا عن كنوز، فلم يأنسوا الماء، «حتى لاذت قرب ضفاف الماء فتعلمت سرّه». كنت أرى الشعراء وهم يلوذون بالضفاف، يبحثون عن الكتب والأسرار والأسفار، ومن سكن في الديار، أو عن قرع نواقيسٍ غابت مع الموج والريح. عن حروب صغيرة أسمع بذكراها، أو تتراءى لي من شرق بيتٍ أسكنه على خاصرة الماء، حيث يكثر المحار التي تسابقت عليه أنفس وبحة نهامين وظلم نواخذة وصبر فقراء، وبما يسمى بحروب «الهيرات» أو حروب اللؤلؤ والغوص. تكفيني هذه الاستفاضات كي أشعر بالخجل من نفسي، لعجزي وبؤسي عن قراءة هذا المكان الذي أسكنه، كي أمنحه بما يليق به. يصف الناقد محمد العباس نصوصك بعدم التماسك، فماذا تقول؟ - الناقد محمد العباس هو من كتب وحيداً عن مجموعتي «ما تيسر له»، كتب عن القص من قعر فخارية مدفونة، كتب عن الذات المهجوسة بالمثيلوجيا والمتماهية عن الهوس الشديد للتاريخ المنسي والواضح بإصرار عن معاودة النظر «للمخيال الاجتماعي» وهو من كتب: «فالقص بالنسبة لدعبل، ومنذ مجموعته «جمرة الضوء» لا يستحيل أدباً إلا بمقدار من ينهل ويتفاعل مع البنى والشروط التاريخية، ليكون شكلاً من أشكال الوعي». وأظنه كان يقصد – بحسب قراءتكِ – لكيماوية اللغة والشعرية المتحررة من القص الكلاسيكي ببنى مثيلوجية فائضة. وهذا ما كتبه عن المجموعة المشتركة، وحتى أنه إنحاز لعنوانها السومري «إن أيامي موغلة في البعد» وهي ذات دلالات مثيلوجية «لإنكي» إله الماء العذب في دلمون وذاك نموذج الكائن البشري الواهن والعاجز. أما عن مجموعة البحبوح فأظن أن الناقد المبدع العباس قد حلّق بعيداً، وبشكل أشعرني بالغيرة والفرح لكتابةٍ أحفورية – نصوص معفّرة بالرقم الطينية - غائرة في النصوص والطين والأمكنة والتاريخ والقبور والأسرار والخلود، كتب وكأنه سرق المفتاح مني، ودخل إلى مدافن وأسرار القبور والأمكنة كحفار متمرس، أو كخبير أركيولوجي تاقت روحه أيضاً لما كتبته للنصوص بأقفالٍ سرّية، أوهمتُ قارئي بمفاتيح النصوص وعناوين مزينة بلوحات فنان سومري تاق لخلود دلمون هو «الفنان اياد القرغولي»، الذي شاركنا هذا التوق والسفر؛ وربما من قرأ كتابة العباس بعيداً عن رائحة النصوص التي تفوح منها رائحة الرقم الطينية، يدرك أنني غير مهموم بالقص، ولا بتجنيس النص أصلاً، ولا بقولبته في شكل يحدّ من مرونته، بقدر ما أكتب بلذة وفضول الحفار. حدثنا عن تجربتك في النشر المشترك، ما إيجابياتها وسلبياتها؟ - لم ندخل التجربة أنا والصديق القاص العراقي علي السوداني لحسابات مشتركة، أو بصبغة ثقافية للانتفاع والنفع والانتشار المسبق، كنا ذاك الوقت على مشارف الألفية الثانية، وقتها كان العراق يعاني من حصار وتوترات سياسية وتيهٍ وضياع لأصدقاء التقيتهم في «عمّان»، البوابة الأولى لكل عراقي يحمل خريطة العالم في جيبه وجواز سفر مخبأ بين الضلوع. كنت وقتها أحمل معي مجموعتي الثانية لتحط في يد ناشر يطبعها، وكانت عمّان تموج بكل ألوان الطيف العراقي، ومعرفتي بعلي أيضاً كانت في عمّان على طاولة المرحوم الشاعر البياتي قبل وفاته؛ بعدها كنا في سهرةٍ عمونية عذبة شفافة مع جمع من الأصدقاء، وكان الحديث يدور حول الحصار الثقافي والذي امتلكته تلابيب السياسة بأردانها، لحظتها إنثالت الفكرة ناضحة وضاحة بخجلٍ على طاولتنا فباركناها بترنيمة وهلهولة وصلوات، فكانت فكرة حبلى بهذا المولود «ما تيسر له»، وهو بالفعل ما تيسر لنا من كتابٍ يجمعنا ولكل مثقف باعدتهما السياسة والمسافات وقربتهما المفردات؛ كنا نتوق لكسر ذاك الجمود والهواجس المربكة والمعشعشة على سعفات نخيلنا، كنا نخترق ألاعيب السياسة والسياسيين بمفرداتنا البسيطة والهائمة كفراشات الحقول، وكنا نحتفي بعيداً عن طبول الحرب المقبلة بخوف وجل وبمحبة انهالت علينا من البعيد؛ فالكتاب عبرَ كل القارات والأمكنة لمن أحبونا وأحببناهم، فكُتبَ عن المجموعة بشكلٍ أجدني فرحاً وسعيداً بعيداً عن السلب والإيجاب.