على مدى ثلاثين عاماً كانت أمي تربي الدواجن في «قن» فوق سطح بيتنا. عشرات من الدجاجات والديوك بشتى ألوانها وأطيافها في «قن» كبير محكم تحمل إليها الماء والحَب في نظام دقيق. تندفع الدجاجات نحو الحَب ثم تلتقط رشفات الماء. تركض وتلهو وتتقافز ثم تتضاجع وتتنادى وتبيض. كل منها تعرف أين تضع حملها. بعيداً من العيون. رحلت أمي بعد معاناة دامت شهوراً مع المرض العضال. مرض مستبد وطاغية ذو أظافر وأنياب لا تُفلت الفريسة أبداً. كانت عاجزة تماماً عن أن تفعل شيئاً إلا أن تتحامل بمساعدة أختي للصعود إلى السطح وزيارة الأحباب في «القن». رغم السجن كانت الدجاجات تحب صاحبتها. لا تنساها أبداً ولا تقصر مهما هربت الحياة من الجسد المتداعي. تجلس أمنا نحو الساعة تتأمل الدجاجات الكبيرة والصغيرة تحدق حتى في الزّرق ولون الريش والعيون والمناقير والمؤخرات تحسب مدى إقبال كل واحدة على القوت. هناك لحظة مجنونة لا بد تبغتنا وتدهمنا. رحلت الحنون الصابرة بضربة قاصمة من مرض فتاك ضاق ذرعاً بمقاومتها وعدم احتفالها به. صعدتُ يوماً وفتحت للدجاجات باب «القن». كانت أمي كل شيء تطمع فيه الكائنات البريئة. تستمتع بوجودها وتستعيض بها عن الدنيا. انطلقت الدجاجات ترفرف بأجنحتها الأرضية وتقفز فوق أسوار المعتقل جهم الوجه. فجأة عبر بعضها إلى الأسطح المجاورة. طار بعضها وسقطت في الشوارع والحارات. اندفعت الدجاجات الظمأى للحرية تركض في كل مكان. أما من بقيت على السطح مكتفية بثورة خجول فقد قلبت المساقي وبعثرت أكياس الحَب. مضت الديكة تصيح بشكل متواصل من دون أن تتنبه أن الوقت ليس ملائماً وأن الفجر الذي تأمله رحل من زمن بعيد وأن المساء على الأبواب. كنتُ الشخص الوحيد تقريباً الذي أصيب بالجنون، فقد أوشكت تحت ضغط فكرة جهنمية أن أبدد ثروة. جريت شرقاً وغرباً وراء الكائنات التي عزمت على الذهاب من دون عودة. حاولت الإمساك بها من دون جدوى. تعرضت للسقوط مرات. طالت لدهشتي أجنحة الدجاجات. حاولت أن تبدو كالمذعورة من رجل فقد كل أثر للرحمة أو الرفق بكائنات عاجزة. عدت أجري وراء الباقيات فوق السطح وأهتف: «بيتك... بيتك». اندلعت النار بالفعل في الأرواح التي تم قمعها لسنوات طويلة جيلاً بعد جيل. ركض متواصل وقفز أفزع الحمام الوديع. الأرانب أصابها الهلع. البط الثقيل مثلي تلفت حائراً واحمرت أصداغه. بدوت عاجزاً تماماً رغم العصا التي أهش بها عن إعادة الاستقرار للسطح الذي أوشك على فقد كل ثروته وهدوئه واستقراره الذي كان مضرب المثل. أخيراً ضقت ذرعاً بالفوضى التي ضربت كل حي وكل ركن. كتمت غيظي ومضيت في هدوء إلى «القن». جلست في الموضع ذاته الذي كان لأمي، لعله يعيد الأحوال إلى ما كانت عليه. لم يعد غير عدد قليل جداً من الدجاجات. رحت أتأمل المشهد وأتنهد في أسى محاولاً تجنب لوم روحي على ما اقترفت.