وقفت طالبة الصف الأول الثانوي فاطمة، النازحة من مدينة حماة إلى مخيم الزعتري على الحدود الأردنية - السورية، حائرة في المدرسة التي افتتحت أخيرا لتعلم المنهاج الأردني لآلاف الطلبة الذين فروا بأرواحهم من جحيم الموت في سورية. تنحصر أمنيات فاطمة، حتى وصلت حد التوسل في أن تنتهي المعاناة المستمرة لطلاب فقدوا عائلاتهم وحرموا العودة إلى مدارسهم التي «حولها الجيش النظامي ثكنات عسكرية». قدمت فاطمة إلى الأردن قبل أربعة أشهر برفقة شقيقتها، الناجية الوحيدة من قصف استهدف منطقتها وقتل جميع أفراد عائلتها، والتحقت بإحدى مدارس المخيم التي تمولها جهات إغاثية دولية. لم تستطع التأقلم مع المنهاج الأردني «لكونه صعباً، ولن أستفيد منه عند عودتي إلى سورية لإكمال مرحلة البكالوريا» كما قالت. وأضافت دامعة: «لطالما تمنيت أن أنهي البكالوريا وأدخل الجامعة لأدرس الطب، لكن بشار الأسد (الرئيس السوري) حرمنا حتى الحلم، وحوّل البلد إلى حمام دم». كان لكلمات فاطمة صدى أقوى وجسدها يرتجف من شدة البرد وسط مخيم صحراوي قاحل. فاختصرت بحديثها معاناة الآلاف من زملائها الذين التحقوا بمقاعد الدراسة على فترتين، بسبب ضيق المدارس واكتظاظ صفوفها. وفيما كانت فاطمة تشكو صعوبة الظروف والمنهاج الأردني، لم يتحمل رأفت الطالب في المرحلة الثانوية، البقاء على مقاعد الدراسة -أو مقاعد «النزوح» كما يسميها- طويلاً، وخلال لقائنا به كان يردد متسائلاً: «عن أي دراسة تتحدثون؟! هربنا من القصف إلى هنا، كان الموت رفيقي ووالدتي على طول الطريق، نجونا بأعجوبة، لكن أشقائي ال3 قضوا جميعاً على أيدي القناصة في مدينة حمص». ومثل رأفت كثير من اليافعين «شطبوا» فكرة العودة إلى المدارس من قائمة همومهم اليومية أو حتى طموحاتهم المستقبلية، واحتفظوا بمشاهد حزينة لمدارس دمرت أو احتلها جنود النظام. داخل أسوار المخيم، الذي يحتضن آلاف الخيام المرقمة والمتناثرة في عمق الصحراء، ثمة قصص أخرى لهؤلاء. فهذه رنا، الطالبة في الصف العاشر، تبدي أسفها لأنها بعيدة من زملائها في بلدتها بريف إدلب. وبصوت متقطع روت كيف تعرضت مدرستها للقصف في تلك الليلة الدامية، قبل أن تقدم شهادة أكثر دموية أشارت فيها إلى مقتل إحدى زميلاتها في الفصل الدراسي على أيدي القناصة. ولا يختلف الحال بالنسبة إلى شمس، التي استعادت مشاهد مفزعة لإحدى رفيقاتها في الدراسة أيضاً، والتي قضت برصاص من يعرفون ب «الشبيحة» بعد أن اغتصبوها. إبداع رغم الظروف وعلى وقع شهادات ملبدة بطعم الموت ورائحة الدمار، تحدثت مدرّسة اللغة العربية عائشة، الهاربة من مدينة درعا، عن جوانب مشرقة في حياة طلابها الصغار داخل المدرسة الأساسية التي يحتضنها المخيم، وعن حال من «الإبداع» الذي فرضته الظروف القاسية على هؤلاء. بصوت غلب عليه الأمل قالت هذه المدرّسة: «رغم القلق والحزن اللذين يتملكاننا جميعاً على مصير أبناء شعبنا، ثمة بريق أمل بغد مشرق». وتابعت: «فوجئت كثيراً بالحال الذي وصل إليه العديد من الطلبة الصغار بسبب ما مروا به، فكثير من المواهب صنعته التجربة القاسية التي فرضت ظلالها المثقلة بالدم وفقدان الأحبة طوال الأشهر الماضية». وشرحت المدرّسة عائشة: «هنا في هذا المخيم، اكتشفنا طاقات كامنة لأطفال قرروا رسم ما تعرضوا له وما شاهدوه من جرائم طاولت مدنيين أبرياء، فيما انصرف آخرون إلى نظم الشعر وإلقاء الخطابات المؤثرة بكل براءة ومن غير توجيه من أحد». وعلى رغم تفرّغ مدرسين سوريين وأردنيين لتعليم المنهاج الذي تدرسه وزارة التربية والتعليم الأردنية، لا يخفي طلاب نازحون خوفهم من عدم الحصول على شهادات رسمية، بسبب فقدان أوراقهم الثبوتية أو تعرضها للتلف خلال الأحداث. وترفض الجهات المختصة في الأردن منح هؤلاء شهادات تؤكد اجتيازهم المرحلة التعليمية بنجاح. ويؤكد مسؤولون في وزارة التربية أن الشهادات في هذه الحالة «تبقى معلقة إلى حين انتهاء الأوضاع في سورية، بما يسمح لذوي الطلبة بتأمين الأوراق التي تشير إلى المرحلة التي اجتازها الطالب في بلده قبل اندلاع الاحتجاجات». وتتمثل المشكلة الكبرى بامتناع السلطات الأردنية عن تدريس الطلبة النازحين مرحلة «البكالوريا»، التي تعرف في الأردن ب «التوجيهي»، والتي تمكن الطالب في حال اجتيازها بنجاح من الوصول إلى المرحلة الجامعية. وتؤكد إحدى المشرفات السوريات داخل «الزعتري»، أن قرار الحكومة الأردنية يمنع تدريس الطلبة النازحين «البكالوريا» لأسباب «إجرائية»، مشيرة إلى أن الجهات المختصة تأمل في انتهاء الأزمة السورية في أسرع وقت، «ليتسنى لطلابنا العودة إلى بلادهم وإكمال دراستهم هناك». ولا تتوقف المشاكل عند ما سبق، إذ إن هناك مشاكل أخرى لا تقل تعقيداً أشارت إليها هذه المشرفة، تتمثل في نقص المناهج الدراسية الموزعة على الطلبة، وتقليص ساعات الدوام اليومي بسبب نظام الفترتين، ما يؤخر استكمال المنهاج في موعده، إلى جانب سوء الأوضاع المعيشية داخل المخيم، والاختلافات الكبيرة بين المنهاجين الأردني والسوري. وكانت أعمال العنف المستمرة منذ آذار (مارس) 2011 قد ألحقت أضراراً جسيمة بآلاف المدارس السورية، بينما حولت كثيراً منها إلى ثكنات عسكرية واستخدمها نازحون ملاجئ، وفق منظمات دولية، من بينها «هيومن رايتس ووتش». وقرر الأردن قبول الطلبة السوريين، بسبب الأحداث الجارية في بلادهم، ضمن المرحلتين الأساسية والثانوية في المدارس الحكومية، وأصدرت الحكومة قراراً يقضي بقبول هؤلاء وإعفائهم من التبرعات المدرسية وأثمان الكتب. وتشير الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة التربية إلى التحاق نحو 4 آلاف طالب بمدارس مخيم الزعتري، إلى جانب 20 ألفاً آخرين بدأوا الدراسة خارج أسوار المخيم.