قد تسفر المواجهة السياسيّة الدائرة والمتصاعدة في مصر عن انتصار السياسة وسقوط قبضة «الإخوان المسلمين» ومشاريعهم الدستوريّة عن صدر الحياة العامّة. والاحتمال هذا سيكون، من دون شكّ، الأمثل والأنبل لأنّه، فضلاً عن وضعه مصر على السكّة القويمة للتطوّر السياسيّ، سوف يعزّز حجّة الثورة ويُغني مبرّراتها، كما يحجّم استخدام الصعود الإسلاميّ ذريعة للموقف المناهض لها، الشيء الذي يسري على مصر بقدر ما يسري على بلدان عربيّة أخرى. ولا يُنسى، هنا، أنّ الدور المحوريّ للبنى والقوى الحديثة، كالقضاة في مصر (والنقابيّين في تونس) يشجّع على تفاؤل كهذا، تفاؤلٍ بانقسام نصفيّ مديد من النوع الذي تعرفه ديموقراطيّات عريقة كالولايات المتّحدة وفرنسا، إنّما مضبوط باللعبة السياسيّة والدستوريّة. بيد أنّ مصر قد تفاجئنا باحتمال ثانٍ مغاير، يقترن فيه الجوهر القمعيّ بالواجهة الديموقراطيّة ويتعايشان. وهذا ما تزداد قابليّته للتصوّر في حال توافق «الإخوان المسلمين» والمؤسّسة العسكريّة على صيغة تخدم الغرض هذا. وغنيّ عن القول إنّ الطرفين قد يجدان ما يكفي من الإغراءات لعقد تحالف حاكم من نوع ما. ففي مقابل التحاق بعض «الفلول» المدنيّين بقوى الثورة، قد تلتحق «الفلول» العسكريّة بقوى «الإخوان» في زواج مصلحة للطرفين. والاحتمال المذكور سوف يصطدم بالرغبات الأميركيّة والغربيّة، وبمصالح مصر تالياً، إلاّ أنّ القيّمين عليه سوف يحاولون إغراء الغرب بمواقف متشدّدة أمنيّاً وفي مجال العلاقات الإقليميّة، الشيء الذي يعيد إلى الأذهان ملامح من عهد حسني مبارك. هذا الاحتمال، باستفتاء أو من دون استفتاء، قد يلد نموذجاً قريباً من ذاك الفرانكويّ في إسبانيا، حيث نهضت السلطة على تحالف الجيش والكنيسة وكبار ملاّكي الأراضي، فيما جنحت لأن تكون ديكتاتوريّة عسكريّة بدل أن تكون توتاليتاريّة على الغرار الفاشيّ والستالينيّ. بيد أنّ الاحتمال المذكور الذي سيتأدّى عنه إجهاض موقّت للقوى الليبراليّة واليساريّة، لن يفعل سوى تأجيل الحسم السياسيّ والديموقراطيّ لفترة يصعب التكهّن بها أو تقدير أكلافها. وعاجلاً أم آجلاً ستجد مصر نفسها أمام مهمّات التحوّل إلى الديموقراطيّة. مع هذا ثمّة احتمال ثالث هو الكارثيّ، والذي يفيض عن المعاني الحديثة للسياسة وعن قوالبها. ما يعنيه ذلك أن ينشطر المجتمع نفسه انشطاراً يستحيل أن ترأب الحياة السياسيّة صدعه. هنا يجد المصريّون أنفسهم وجهاً لوجه أمام مفاعيل العقود الماضية من جهود السلطة وجهود الإسلاميّين معاً. فالسلطة من خلال تديينها المجتمع وشطراً من الثقافة في سياق مواجهتها للإخوان، والإسلاميّون من خلال إنشائهم مجتمعاً موازياً ومضادّاً، ثقافيّاً واقتصاديّاً وتعليميّاً وقيمياً وفي الزيّ والمظهر، نجحوا في توسيع الهوّة بين «شعبين» داخل الشعب المصريّ: «شعب» الإسلاميّين و «شعب» غير الإسلاميّين (طالما أنّ الأخيرين يصعب وصفهم بالعلمانيّين). وإذا كنّا نرى شيئاً من ذلك في الانشطار العريض الذي تسلّل إلى النقابات وسائر التكوينات القاعديّة، فإنّ الأصول الثقافيّة للتيّارين تباعد بينهما، الأمر الذي يرقى إلى اختلاف في تأويل التاريخ المصريّ الحديث منذ حملة نابوليون، مروراً بعهد اسماعيل وشقّ قناة السويس، انتهاء بيومنا الراهن. وإلى التاريخ، يفضي تركيز الصراع على «الهويّة»، بشكل مباشر أو مداور، إلى توسيع الشقّة الفاصلة بين قطاعين عريضين في المجتمع، مفجّراً في طريقه المسألة القبطيّة ومضيفاً إيّاها إلى كاتالوغ التناقضات النوعيّة. ولا يفوت، في سياق كهذا، التوكيد على مخاطر الأكثريّة العدديّة البحتة، لا سيّما حين تنتج حكماً فئويّاً معنيّاً بحزبه «الفائز» أكثر من عنايته بالشعب والأمّة. فهل تجد مصر نفسها، ونجد أنفسنا معها، ندفع هذا الثمن الباهظ نيابة عن التاريخ والثقافة، والسياسة طبعاً؟