على رغم انتهاء البرلمان المصري من اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية التي ستقوم بوضع الدستور، إلا أن مصر مقبلة بكل أسف على أزمة سياسية عميقة قد تنتهي بانهيار دستوري يعيد العملية السياسية إلى نقطة الصفر. إذ شهدت الساحة السياسية المصرية خلال الأيام الأخيرة التي سبقت اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية سجالاً سياسياً وقانونياً عنيفاً بين فريقين: فريق يضم الغالبية البرلمانية من نواب حزبي «الحرية والعدالة» و «النور»، وفريق يضم الأقلية البرلمانية من الأحزاب المدنية وقطاعاً عريضاً من النخبة السياسية ذات التوجه العلماني، والفقهاء الدستوريين. وبينما يرى الفريق الأول أن مهمتي اختيار الجمعية التأسيسية ووضع الدستور أوكلتا إلى البرلمان بموجب استفتاء شعبي يعبر عن إرادة الجماهير التي صوتت بغالبية كبيرة له ولنوابه المنتخبين، فإن الفريق الثاني يرى أن استئثار الغالبية البرلمانية بهاتين المهمتين يُعد امتداداً لجملة من الأخطاء السياسية والدستورية التي ترتبت على البدء بإجراء الانتخابات البرلمانية قبل وضع الدستور، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى اندلاع معركة سياسية كبيرة بين الفريقين قد تكون محصلتها النهائية سقوط النظام السياسي والدستوري المصري برمته. فالطريقة المتعجلة في اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور والتي أفضت إلى تشكيل رديء يخلو تقريباً من معظم القامات السياسية والفكرية والقانونية في مصر، وكذلك لجوء معارضين لتلك الجمعية، إلى سلاح الدعاوى القضائية لإبطال نتائجها، ناهيك عن الدعاوى المرفوعة لإبطال نتائج الانتخابات البرلمانية ذاتها، يعنيان أننا أمام احتمالين خطيرين: الأول هو نجاح الغالبية الإسلامية في تمرير مشروع الدستور عبر استفتاء شعبي على رغم رفض القوى العلمانية والثورية لهذا الدستور والذي قد يجيء بالتوازي مع فشلها قضائياً في حل مجلسي الشعب والشورى والجمعية التأسيسية وكذلك تبرئة مبارك ومعاونيه من تهم قتل المتظاهرين أثناء الثورة. فهذا الاحتمال قد يفتح الباب أمام حال من الفوضى السياسية والاجتماعية العارمة. فحملات التشكيك في استقلال السلطة القضائية في أعقاب الإفراج عن المتهمين الأجانب في قضية التمويل الأجنبي لمؤسسات المجتمع المدني تغذي نظرية المؤامرة بين السلطة القضائية والمجلس العسكري والإخوان لدى تلك القوى فتدفعها للنزول إلى الشارع وإشعال موجة ثورية ثالثة. أما الاحتمال الثاني فهو نجاح تلك القوى المعارضة للجمعية التأسيسية في حلّها وحلّ البرلمان المنتخب بغرفتيه ومن ثم إبطال نتائج انتخابات الرئاسة. وهو ما يعني حدوث انهيار دستوري شامل يعيد البلاد من جديد إلى بدايات المرحلة الانتقالية. وهو ما قد يفضي كذلك إلى الحال نفسها من الفوضى السياسية والاجتماعية، إذا ما نجحت غالبية هذا البرلمان المنحل في حشد أنصارها والنزول إلى الشارع للدفاع عن مغانمها السياسية التي تحققت خلال المرحلة الانتقالية. ولأن الحال المصرية على مختلف الصعد، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، لا تحتمل نتائج هذين الاحتمالين الخطرين، فإن المطلب الأساس الآن هو انتقال تلك الأزمة من فضائها الدستوري والقانوني المفترض إلى فضائها السياسي الواقعي. فأزمة الدستور منذ بداياتها نشأت كنتاج لغياب التوافق بين القوى السياسية المصرية لهيمنة منطق المغالبة على خطابات ومواقف فرقاء المشهد السياسي كافة، ما أدى في النهاية إلى تحميل تلك الوثيقة القانونية الرفيعة ما لا يمكن أن تحتمل من أضغان وأحقاد المكايدة والصراع السياسي الدائر بين التيار الإسلامي والتيارات المدنية والثورية وهو ما يعني أن الخروج من هذا المأزق الخطير والمحتمل يتطلب أولاً تخلي الإسلاميين عن منطق داروينية المنتصر الذي حكم سلوكهم وخطابهم السياسي منذ حصولهم على الغالبية البرلمانية، وتخلص التيارات المدنية والثورية كذلك من عقدة المهزوم التي تدفعهم دفعاً إلى محاولة هدم الكيان الدستوري للدولة والتشكيك في نزاهة العملية السياسية برمتها. كما يتطلب ثانياً التوافق في ما بينهما على إعادة النظر في شكل جدي في تشكيل الجمعية التأسيسية بما يضمن تمثيل قوى الشعب المصري وطوائفه كافة، وبناء على هذا التوافق تسحب الدعاوى القضائية المطالبة بحل البرلمان والجمعية التأسيسية، وإلا سيتحمل الطرفان المسؤولية المترتبة على انهيار عملية التحول الديموقراطي. * كاتب مصري