«تركيا تقف بجانبكم إلى يوم القيامة». كلمات قليلة ألقاها وزير الخارجية التركي في زيارته الثانية لبلادنا الصومال، أظهرت وعياً تركياً حقيقياً بما يحدث على الأرض الصومالية، ولتحمل تلك الكلمات جرعة مكثّفة من الأمل بإمكان تحقيق الكثير هناك. قد يكون سرّ «طربنا» بكلمات أحمد داود أوغلو، صراحته الأخوية في الإشارة الى مسائل، تم طرحها من قبلنا، كما من قبل غيرنا بأكثر من طريقة، تصبّ في مجملها في أهمية مسألة «الثقة بالنفس»، التي عازت وتعوز القيادات الصومالية المدنية المتوالية، متمثلاً ذلك بالرئيسين السابقين الدكتورعبدي قاسم صلاد حسن، والشيخ شريف شيخ حسن، لعوامل على الأرض أدركنا وندرك واقعياتها الضاغطة، على السير المنهجي والمنظّم للعمل الحكومي. تلك الثقة التي يجب ان تنبع من إدراك واضح للحقائق المعيارية للنظم السياسية القائمة، سواء كانت الدولة القائمة في البلد، دولة قوية وفاعلة حامية وخادمة للشعب كما هو مأمول، أو كانت دولة غائبة أو تكاد كما هو الواقع، أو فاشلة كما لا يني الإعلام ينقل عن المنظمات الدولية حول الصومال. فما زالت البلاد على الخريطة ولم تختفِ بالتبعية والاحتلال، وما زال لرئيسها في المحافل الدولية مقام الرئاسة، شأنه شأن غيره، ولا تزال السفارات الوطنية يتم التعامل معها في الأوساط الديبلوماسية بالدول المضيفة كمؤسسات ذات صدقية، ولا يزال جواز السفر والوثائق الوطنية متعارفاً على اعتمادها للإجراءات والتعاملات المعتادة. اذاً ما هي المشكلة الحقيقية التي تجعل الدوائر السياسية العليا في البلد عاجزة عن الخروج من حال «الضياع» التي تحوم فيها منذ فترة ليست قصيرة؟ ولسنا هنا ننتقد الدولة ما بعد الانتقالية، وحكومتها المؤلّفة أخيراً بشكل خاص أو مجحف، بل نتحدث عن الجوّ العام الذي نستشعر أنه لا يزال مخيماً وضاغطاً باتجاه دعوتنا إلى التحرّك بإقدام وحزم، نحو فرض سيطرة «فكرة» الدولة على دوائر سياسية معيّنة، لا شكّ أن تأثيرها في البرلمان ووسائل الإعلام يشي بأنها ما زالت تعيش في مرحلة الحرب الأهلية، أو أنها ولو في شكل غير مباشر تستثمر في استمرار غياب الدولة. ولن يكون بعيداً عن الحقيقة ما نشير إليه، من إنتهاء صلاحية القادة التقليديين، من عقلاء وأمراء وحكماء وسلاطين، وهو ما بدا جلياً في دورهم السطحي والبائس أثناء العملية الدستورية، خصوصاً أنهم أصبحوا تابعين خانعين للسياسيين المتنفذين، من أمراء الحرب ومن خرج من عباءاتهم، وما زال يحمل العقلية نفسها التي نختصرها باللؤم وانعدام الإنسانية، والذين يثيرون معارك سياسية، وزوابع مخزية بين الفينة والأخرى داخلياً، من خلال الإعلام المأجور، كيف لا وهؤلاء الساسة هم الذين يتصرّفون كأنهم قد مُنحوا تفويضاً إلهياً، يحدد حقوق الفئات التي ينتمون إليها، بما يرتؤونه من مصالح ومنافع يجنونها لأنفسهم، أو دوائرهم المقرّبة، رغم أنهم ليسوا أفراداً أصيلين في العائلات التي قادت تقليدياً عشائرها وقبائلها منذ قرون، بكثير من الحكمة والشجاعة والكرم. وإذ كنّا نجد أنه من غير المنطقي أو الممكن، العودة بعقارب الساعة أو توالي الليل والنهار، الى زمن كانت الحكمة والتعقّل والسعي نحو السلام والكرامة للجميع، ديدن القادة ومقياس إنجازهم وسجلَّ سيرتهم، خصوصاً بعد أن حلّت الدولة المدنية محلّهم بالاستقلال، وتمّ إقصاء أي دور اجتماعي ذي أثر سياسي - اجتماعي - قد يكون حميداً - لهم إثر الانقلاب العسكري، واستتباعهم واستغلالهم في أعمال منافية للدين والاخلاق، بعد أن أصبحوا هم أنفسهم عرضة للإغتيال والاضطهاد في حال خالفوا أمير الحرب، أو بادروا بما من شأنه إحلال السلام، فمن الضروري نزع الشرعية عن أي عنصر سياسي يستغل صفته القبلية ليجعل من كرامة الفئة التي ينتمي إليها، أو من نصيبها المحدد في المحاصصة المثبتة في الدستور، أو قدراتها الاقتصادية، أو موقعها الجيوسياسي في البلاد، أو ما تعد به البقعة من الأرض التي يقطنونها، من ثروات وإمكانات مستقبلية واعدة، أداة لخنق العمل السياسي والإداري في البلاد، ما لم يمرّ تحت «إبطه»، فسيكون لزاماً تحجيم ذلك العنصر وتحييده وإخراجه من العملية السياسية، عبر دعوة الحكومة لتنشيط العملي السياسي الحزبي والنقابي الوطني الشامل، والذي لا يكون محدداً ببقعة من البلاد دون غيرها، وبفئة من دون غيرها، إلا بما يلبي خصوصيات الشؤون التعاونية في الإعمار المناطقي والريفي، وصيانة الثقافة والتقاليد الخاصة. فبقاء العملية السياسية بين أيدي قطاع طرق قبليين في بزات فاخرة، سيبقي مستقبل البلاد مرهوناً لهم، وسيحطّم أي بوادر فعلية لاستعادة روح المواطنة من جديد، وسيبقي نمو مؤسسات الدولة في حدّه الأدنى، وإن دولة كتلك التي ينشط فيها مثل أولئك، ستبقى ذلك القزم المسخ، وستبقى تلك العاجزة عن إثبات وجودها الذي يتيحه ما بين يديها من إمكانات يمكن تحصيلها، وسيكون من المنطقي البقاء، بل والإغراق في حال انعدام الثقة، بالنفس وبالآخر الشريك في الوطن، المخيمة اليوم والظاهرة بفجاجة، إلى أن يشاء الله شيئاً.