«خرجت من سورية مشياً، حتى دخلت إحدى الدول المجاورة ومنها استطعت الوصول إلى فرنسا التي يرغب كثيرون ربما في الوصول إليها، لكن بالنسبة إلي، وفي هذه الظروف، حزنت لأن السفر يبعدني عن نشاطي الحقيقي في الثورة، هناك، على الأرض...». يتردد تعبير «على الأرض» أو «من الأرض» كثيراً في أحاديث الناشطين السوريين. فعاصم حمشو، الصحافي والناشط السياسي السوري، ليس الوحيد الذي يستخدمها للدلالة إلى حركته في قلب الثورة في سورية، بل يتقاسمها مع آلاف الناشطين الذين اضطروا لمغادرة البلاد نتيجة ملاحقات أمنية وقرارات اعتقال أو تصفية اتخذها النظام السوري في حقهم خلال الشهور العشرين المنصرمة. كانت فرنسا وجهة ما لا يقل عن 120 ناشطاً سورياً خلال الفترة الماضية. وهذا الإحصاء التقريبي يبدو غير دقيق، في ظل انتشار الجالية السورية في أكثر من مدينة فرنسية. لكن قواسم مشتركة تربط بين كثر من هؤلاء الوافدين الجدد. فغالبيتهم متأخرة في تعلم اللغة الفرنسية، مثلاً، وينشغلون، معظم اليوم، في نشاطهم السياسي والإعلامي، إن بالتواصل مع الداخل السوري أو حتى مع المجتمع الفرنسي، خصوصاً مع ماكينة إعلامية تدعم دعاية النظام ويجتمع فيها أقصى اليسار الفرنسي مع أقصى اليمين! ويقول حمشو: «أشارك في ندوات ولقاءات توفر لي فرصة التواصل مع الفرنسيين، لأشرح لهم الوضع في سورية وأجيب على أسئلتهم، خصوصاً إن غالبية ليست بقليلة لا تعرف شيئاً عن الوضع الداخلي الذي قد يقتصر على صورة نمطية عن المنطقة، مختصرة في تطرف ديني وحرب أهلية، لكن المشكلة أنني أضطر للاستعانة بمن يترجم ما أقوله إلى الفرنسية». أما مجد، وهو طبيب سوري وصل إلى فرنسا بعد تجربة اعتقال، فلا يتشارك ومواطنيه النازحين عائق اللغة، فمشكلته مختلفة. لم يجد فرصة عمل تناسب تخصصه، كما أن تعقيدات الأوراق الرسمية والإقامة في باريس، فاقمت أزمته، فقرر شدّ رحاله إلى أميركا: «غادرت سورية إلى فرنسا، على عجل، بعد خروجي من السجن، وعلى رغم إتقاني للفرنسية وقدرتي على التواصل جيداً مع الناس، إلا أن الظروف المادية وحتى الدراسة هنا كانت صعبة بالنسبة إلي، لم أستطع التأقلم تماماً، فقررت السفر مجدداً، لا سيما أنني لا أستطيع العودة إلى سورية لأتابع عملي في المستشفيات الميدانية كما كنت أفعل سابقاً». جمعيات يواجه الناشطون السوريون، الواصلون حديثاً إلى باريس، صعاباً كثيرة، منها عدم حيازتهم أوراقاً رسمية للسفر، وغالبيتهم كانت ممنوعة من السفر، إضافة إلى صعوبة تأمين متطلبات حياتهم اليومية، وأزمة تأمين السكن والإقامة، فيستعينون بأصدقاء أو أقارب أو معارف، خصوصاً في المرحلة الأولى. هكذا، أسّس السوريون المقيمون في فرنسا منذ مدة طويلة، جمعيات ومجموعات لمساعدة الوافدين الجدد. ويقول الناشط ربيع الحايك، وهو عضو في جمعية «سورية حرية» إن الجمعية تأسست في بداية الثورة، وكانت تقدم الدعم للنازحين والمتضررين في الداخل، «لكنها في فترة لاحقة واجهت تحدياً جديداً مع السوريين الوافدين إلى فرنسا، فبدأ الاهتمام بمساعدتهم في إنجاز أوراق الإقامة وتسجيلهم في دورات للغة الفرنسية، وغيرها من المساعدات البسيطة التي يمكن أن تسهل اندماجهم في المجتمع، ومواصلة نشاطهم في الثورة، ولو من بُعد». وخلال الأيام الماضية، واجهت السوريين المقيمين في باريس مشكلة جديدة. فبعد اعتراف باريس بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وتعيين الأخير سفيراً له في فرنسا، وجد السوريون أنفسهم أمام سفارتين سوريتين في عاصمة واحدة، وهذا ما تسبب في حيرة كبرى، خصوصاً بين الطلاب الذي أتوا لمتابعة دراستهم الجامعية، ولم يعد في استطاعتهم العودة إلى سورية نتيجة موقفهم المؤيد للثورة، وهم في الوقت نفسه في حاجة إلى أوراق ثبوتية ورسمية من السفارة التي قد لا تعطيهم إياها. كما تعجز سفارة الائتلاف أو مكتبها عن تأمين ذلك في الوقت الراهن. وهنا تقول داليا، وهي طالبة سورية مقيمة في باريس: «انقطعت منحتي الدراسية التي كانت تقدمها إليّ وزارة التعليم في سورية بسبب موقفي المؤيد للثورة، وأنا اليوم أحتاج إلى أوراق ثبوتية لأقدمها لجامعتي حتى استطيع إتمام دراستي على نفقتي الخاصة، ولا أعرف إلى أي السفارتين أتوجه! فسفارة النظام قد لا تتعاون معنا، وسفارة الائتلاف لا تملك هذه الأوراق حتى الآن، كما أعتقد». هكذا، وبين هموم الحياة اليومية والإحساس بالغربة مترجماً في علاقات اجتماعية جديدة ولغة قد لا تُسعف، إضافة إلى المواظبة على المشاركة في التظاهرة الأسبوعية للجالية السورية، كل سبت في ساحة «شاتليه» أو غيرها من النشاطات الداعمة للشعب السوري، تتلخص حياة سوريين حديثين في فرنسا، يضاف إليها شعور بعضهم بالذنب لخروجه من البلاد فيما العائلة والأصدقاء ما زالوا هناك، بينما يرغب البعض الآخر في الانتقال إلى لبنان أو تركيا ليكونوا أقرب إلى الحدث... إنها دورة الحياة الموقتة، أو هكذا يراها هؤلاء، في انتظار لحظة العودة إلى «سورية الجديدة».