عمرو موسى حاضراً في اللقاءات العربية التي حفلت بالعداوات أو المناكفات وبالطرائف أحياناً. ومن موقعه في الأمانة العامة التقى كبار اللاعبين على المسرحين الإقليمي والدولي وهنا نص الحلقة الخامسة: معارضو صدام ربطوا صورته بمجزرة حلبجة ومعارضو حافظ الأسد بحماة ومعارضو القذافي بمذبحة سجن أبو سليم، ألم يحدث شيء مشابه في عهد حسني مبارك؟ - لا لم تصل به الأمور إلى ذلك الحد، كان يلجأ إلى سجن المعارضين أو التضييق عليهم والحد من حرياتهم والتأثير في مصالحهم، لكنه لم يكن شخصاً دموياً، ومصر عموماً ليست دموية. وقطعاً إذا أردنا مقارنة وسائل حسني مبارك في التعامل مع معارضيه ومنها السجن، وهي بالطبع مسألة ليست بسيطة، لكن مبارك لم يكن مثل صدّام أو القذافي أو حافظ الأسد. لم يحصل لا في عهد مبارك ولا في عهد السادات وحتى قبل ذلك ما يشبه ما وقع في العراق أو سورية أو ليبيا. ربما حصلت أحداث فردية أو على مستوى جماعات صغيرة. في مصر طبيعة مختلفة تماماً إنما البعد الاستراتيجي في المنطقة صاحبه الكثير من العنف، مثل ما قام به القذافي وصدام وحافظ الأسد، وذلك كان جزءاً من المشهد. انسحاب مصر كان خطأ إستراتيجياً خطراً جداً، ونظرية أن «تتفرج» مصر كانت غير بناءة خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة لعهد مبارك. ألم تكن لدى مبارك رغبة في منازعة حافظ الأسد في لبنان؟ - لا، وهذا مؤكد. ولم تكن لدى مبارك رغبة في اعتراض اندفاع صدّام حسين؟ - بالتحديد في مسألة غزو الكويت كان موقفه واضحاً وأعلن صراحة أن غزو الكويت غير مقبول. إنما لو كانت مصر في قوتها لكانت وقفت وحدها ضد صدّام وهزمته وحاصرته على الأقل سياسياً. ونستطيع نحن كسياسيين عرب تابعنا الوضع بدقة أن نقول: هل كان الأمر يحتاج إلى وجود أميركا حتى تهزم الجيش العراقي الذي حقيقة لم يكن قوياً؟ كيف تصف لنا علاقة مبارك بحافظ الأسد؟ - كانت علاقة تنسيق مطلوبة من الجانبين وكافية لهما مع التوجس المستمر من الناحيتين، وذكرت لك قصة القمة الثلاثية بين مصر والسعودية وسورية، وعندما طرحت الموضوع الأمني الذي كانت تسعى إليه إسرائيل أشار مبارك بالتنسيق مع الملك فهد والرئيس حافظ الأسد وكان يدرك أهمية الأسد. لكن يبقى السؤال إلى أي مدى ذهب بها والى أي مدى استثمرها. العلاقة الشخصية بين مبارك وحافظ الأسد كانت جيدة بعكس العلاقة مع بشّار الذي لم يكن مرتاحاً إلى الطريقة التي يعامله بها مبارك كأنه ابن أخيه وليس كالرئيس بشار الأسد. ووصل إلى أسماعنا أكثر من مرة عن لسان بشّار قوله أنا رئيس سورية الآن ولست إبن الرئيس السابق لسورية ويجب أن أعامل معاملة ندية بين الرؤساء. والكثير من الرؤساء العرب لم يكونوا يتقبلون بسهولة كلام بشّار الأسد في المحافل العربية والجامعة العربية لناحية إعطاء الدروس في القومية العربية ونظرة سورية إلى الأمور، ولم يكن الرئيس المصري كما لم يكن العاهل السعودي يرتاحان إلى كلام بشار. من هنا تأثر كثيراً المحور الثلاثي المصري-السعودي-السوري لأن حافظ الأسد كان قليل الكلام ومستعداً للعمل طالما كان متأكداً ومقتنعاً، بينما كان الرئيس المصري والعاهل السعودي يريان أن بشّار كان يتجه أكثر نحو الكلام الكبير القديم. أنا كنت أرى أن المسألة ليست بالضبط بهذا الشكل مع بشار الأسد وهو ما تبين اثر ما حصل في لبنان بعد قتل رفيق الحريري، الذي تأثرت لرحيله جداً لأنني كنت أحبه، وكنت من الأشخاص الذين تحدثوا إليه مطولاً في الأوضاع العربية بصراحة كبيرة. وكنت أتمتع بحرية شديدة كأمين عام في الحديث مع الرؤساء لأنني لم أقصدهم طلباً لشيء شخصي أو غير شخصي وكنت أتكلم معهم بكل صراحة. وكنت ألتقي رفيق الحريري وأسمع منه كلاماً يدل على التزام عربي وليس مجرد حديث مسؤول لبناني تقليدي. كانت لدى رفيق الحريري اتصالات دولية، أنا على علم بها من الأميركيين والأوروبيين في شأن العلاقات الاميركية - اللبنانية وفلسطين وسورية بل ومصر. وكنت أعرف مَنْ من الشخصيات العربية مستعدة أو قادرة على الحديث الجدي الإستراتيجي مع زعماء العالم وكان رفيق الحريري من أبرز تلك الشخصيات. رحمه الله فقد كان زعامة عربية محترمة. زرت حديثاً ضريح ياسر عرفات هل تحن إلى أيامه؟ - تذكرته وتوجهت إلى ضريحه ووضعت الزهور وقرأت له الفاتحة. كان مناضلاً وشخصية فريدة من نوعها في فعلها وفي رد فعلها. هل كان زمن ياسر عرفات أنقى أو أرقى؟ - الزمن ليس زمن ياسر عرفات ولا زمن أبو مازن، الزمن تغير على الكل، لا في مصر استمر حكم حسني مبارك ولا حكم ثورة 23 يوليو، ولا في تونس استمر الحكم مثلما ما كان، ولا في سورية كما نرى. الأمور تتغير والزمن كله يتغير. كان زمن ياسر عرفات وزمن حسني مبارك وزمن زين العابدين بن علي، وكان يتحدث معهم ويحاول إرضاءهم أو استرضاءهم أو «الضحك» عليهم، فيتكلم قائلاً زين الرجال عن زين العابدين ولا يخاطبه إلا بذلك، والقائد صدّام حسين، والمبارك حسني مبارك. هل أخبرك ياسر عرفات عن مدى كرهه لحافظ الأسد؟ - لا لم تكن تلك طريقة حديثه لأنه يعرف مَنْ هو حافظ الأسد وما يعني أن يُنقل إليه مثل ذلك الكلام، على رغم أنه كان يثق بي فأنا لا أنقل كلاماً يضر بأي طرف. إلا أن ذلك كان واضحاً في كلامه إذ كان دائماً يقول أنه مصري الهوى، مما يعني أن يتبع مفهوم المخالفة الذي يجيده السوريون، بمعنى أنه ليس سوري الهوى، وهذا كان كافياً لإحداث فجوة بين الرئيسين. قبل مغادرته بيروت بفعل الغزو الإسرائيلي كان عرفات يحرص على أن يقول أنا صمدت في بيروت في أطول حرب عربية - إسرائيلية وواضح أنه كان يريد إغاظة الأسد؟ - لعرفات كلام كثير من هذا النوع. كان لديه جانب طريف وكان جميع إخوانه ومساعديه يعرفون أنه سيطلع بشيء جديد. مثلاً، كان لديه دائماً عدة أقلام يضعها في جيبه مع أوراق صغيرة. مرة خلال نقاشه في القمة العربية أحد الرؤساء قال له أنا أقرأ لك ماذا قلت في اليوم الفلاني وأخرج ورقة وقرأ منها من دون تردد. وأقسم لي أحد أعضاء الوفد الفلسطيني الذي كان جالساً وراءه أن تلك الورقة لم يكن مكتوباً عليها أي كلمة بتاتاً وأن الصفحة كانت بيضاء تماماً. لم أعد أذكر إن كان يوجه حديثه حينها لحافظ الأسد أو زعيم آخر. أعضاء الوفد الفلسطيني خرجوا من القاعة يضحكون وعندما استفسرت عن السبب دهشت. القذافي أيضاً كان طريفاً في القمم العربية ومحرجاً؟ - القذافي طريف بمعنى مختلف. أستطيع أن أقول أن الطرافة كانت جانباً من شخصية ثلاثة رؤساء عرب: ياسر عرفات ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح. وطبيعتهم كانت تجعلنا نُقبل على أي جلسة معهم ونحن متأكدون أن الجلسة ستكون ظريفة جداً، جلسة فيها جانب جدي وفيها جانب آخر لا يمكن أن يوصف بالجدية، خصوصاً مع القذافي الذي كان يتحدث في الخيالات والتصورات، أما علي عبدالله صالح فكان يلون الجلسات ببراعات ومزايدات و «قفشات»، طرافة ياسر عرفات كانت محبوكة بذكاء. ما هي أعمق العداوات في نادي الزعماء العرب في تلك الفترة؟ - العداوة الثابتة والراسخة كانت بين صدام حسين وحافظ الأسد على رغم انتمائهما نظرياً إلى الحزب نفسه. والمنافسة على الورقة الفلسطينية بين حافظ الأسد وعرفات؟ - أعتقد أن حافظ الأسد سلَّم بذلك، فهو لا يستطيع أن يسيطر على ياسر عرفات ولا يستطيع التخلص منه لأنه في تلك الآونة لم يكن يعرف ماذا يمكن أن يحدث بعد ياسر عرفات. طبعاً كانت السياسة السورية تطلق انطباعات فيها الكثير من الاستهزاء والاستخفاف بياسر عرفات وتسعى إلى إشاعة انطباع أنه كاذب. كل ذلك لم يؤثر كثيراً في عرفات. السوريون كانوا غير قادرين على ياسر عرفات وكان من الصعب عليهم أن يستخدموا معه الأسلوب الذي مكنهم من إظهار قدرتهم على آخرين. ياسر عرفات كان مرحلة خاصة في تاريخ فلسطين لا يقاس عليه أي أحد آخر أبداً لأنه كان ذا شخصية غريبة، شاملة، وشخصية لها طابع فلسطيني خاص، يتعامل مع الدول العربية من منطلق قوة، من حيث تشديده على أهمية القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والنضال، ثم من منطلق ضعف، لناحية طلبه الدعم المالي، وهو في كلا الحالتين كان يمثل تمثيلاً من أبدع ما يمكن. ما هي العداوات الأخرى في نادي الجامعة العربية وفي نادي القمة العربية؟ - العلاقات المغربية - الجزائرية كانت أيضاً شديدة التوتر بسبب الصحراء الغربية. في أوائل حكم زين العابدين بن علي في تونس لم يكن الوفاق تاماً بينه وبين حسني مبارك، بل التوافق بدأ يتصاعد حين تعرض الرئيسان للوضع نفسه تقريباً وهو المواجهة مع «الإخوان» وتوترات إسلاميين ومراحل عنف، فتقاربا. والشيء الغريب جداً هو على رغم أننا تحدثنا عن مصر وسورية، ومصر والخليج، الحقيقة أن المجتمعين العربيين المتقاربين من حيث الظروف والفعل وردود الفعل هما تونس ومصر. على رغم أن هذا لم يكن موجوداً في الطرح الفكري في مراحل مختلفة، مثل ما طرح من وحدة بين مصر وسورية، ومصر وسورية والعراق، ومصر وسورية والسعودية، إنما التقارب المجتمعي الحقيقي ظهر عندما حصلت الثورة في تونس واندلاع الثورة بعدها بأيام قليلة في مصر متأثرة بها، بين أمور أخرى. هذا التأثر والتقارب في التحديات وفي طريقة ردود الفعل وفي طريقة التصرف واضحة جداً بين مصر وتونس. بعد انطلاق «الربيع العربي» طرح سؤال عن سر تصاعد الدور القطري في أكثر من مكان؟ - الإجابة واضحة وهي القوة اللينة أو القوة الناعمة. قطر تمتلك من القوى الناعمة الكثير الكثير والقرن الحادي والعشرين لا يعتمد فقط على الدول ذات القوى التقليدية، ولا المساحة الكبيرة بالضرورة، وإنما أي قوة تستطيع أن تستخدم منتجات العصر الحديث مثل الإعلام والقوة المادية والقوة الإلكترونية... قطر أصبحت في منتهى القوة لأن لديها من أسباب القوة اللينة ما ليس لدى غيرها. طبعاً يُضاف إلى هذا صغر الحجم وقلة التحديات المعيشية، فالناس مرتاحة مادياً، وما دام الشعب مرتاحاً فلا أسباب للثورة، وهناك عوامل عدة جعلتها قوية بينها حسن إدارة أمورها. الأمير حمد بن خليفة هو القوة الحقيقية ويساعده الشيخ حمد بن جاسم. والأمير أحسن إدارة الأمور واتخذ القرارات الصعبة بسهولة كبيرة جداً. فكر كيف يُحمى فرأى أن الأميركيين يستطيعون حمايته وليس الآخرون، فكانت القاعدة الأميركية التي لم تكن موجودة في الأولويات الأميركية لكن الأمير حمد قال للأميركيين أنه سيتكفل بنفقاتها ويدفعها كلها فأصبح يتمتع بالحماية وانطلق بقوة. المهم أن القوة اللينة التي يتمتع بها سلاح كبير جداً في الزمن الحالي، ولو كانت هذه القوة موجودة قبل ستين سنة مثلاً لما كانت ذات منفعة. هل يرعى برنامجاً إخوانياً في المنطقة؟ - هو ليس بعيداً عن الناحية الدينية وهذه ضمن الثقافة القطرية فهذا طبيعي وواضح من الطرح الإعلامي وتوجه الأموال كما يُقال. لا أعرف عن برنامج، ولكن ما أعرفه هو أن هناك تقارباً مع هذه التيارات الإسلامية. وتلك التيارات الإسلامية لها برامج خاصة بها ستنفذها ولن تنفذ أي برنامج آخر أبداً، وهذه رسالة يجب أن يعيها الجميع بمن فيهم قطر. مَنْ التقيت من الزعماء الدوليين؟ - التقيت الجميع. خلال عملي في الجامعة العربية في السنوات العشر الأخيرة فُتحت للجامعة العربية آفاق كبيرة جداً ووصلت إلى أنها دُعيت إلى منتدى الدول السبع أو منتدى الدول الثماني الكبرى، وكان هذا إنجازاً كبيراً وكنت سعيداً بذلك لأنهم فهموا ما هو دور الجامعة العربية. وهذا فتح لي أبواباً عدة للقاء الجميع والنقاش المباشر مع الكثير منهم مثل الرئيس باراك أوباما، والرئيس نيكولا ساركوزي وقبله الرئيس جاك شيراك، والرئيس فلاديمير بوتين الذي دعاني خصيصاً ليسمع رأيي في تطورات القضية الفلسطينية والشرق الأوسط عام 2009، والمستشارة ميركل، ورؤساء الحكومات البريطانية، ولي علاقات معهم، ومع الرئيس البرازيلي لولا الذي أكن له الإعجاب الشديد. وكان لولا زارنا في مصر وقدم مشروعاً عن التقارب اللاتيني-العربي لم يقدره أحد. أنا كان لدي تقديري لهذا الموضوع فعملت معه وأعددت له القمة التي كان يريدها وتوجهنا إلى البرازيل ومنحني الوسام الأسمى في البرازيل الذي يجعلني أتمتع بمعاملة خاصة فيها. لولا كان ذا رؤية كبيرة جداً عن العالم وعن قيمة العالم العربي وعن جذور الثقافة العربية الموجودة في أميركا اللاتينية وأن هذا يجب ألا يذهب سدى، وكان هذا موضوع نقاش بيني وبينه في القاهرة. ما كان انطباعك عن الرئيس أوباما؟ - أول مرة التقيت الرئيس أوباما كانت في تركيا وكان مُقدِماً في ذهنه على تغيير سياسات، بالذات في موضوع فلسطين. عندما توجه إلى تركيا أقام له الرئيس عبد الله غل حفلة استقبال وعشاء خاصاً حضره حوالى عشرين شخصاً ودعيت إليه فقابلته وتحدثت إليه بسرعة عن القضية الفلسطينية فقال إنه سيكون هناك خطوات جادة لحل هذه القضية. ثم زار القاهرة وألقى خطابه الشهير. ثم التقيته في القمة الصناعية في تموز (يوليو) الماضي في جنوبفرنسا. الجلسة بطبيعتها فيها حوالى 15 شخصاً: الرؤساء الثمانية والأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام للجامعة العربية ورئيس صندوق النقد ورئيس البنك الدولي ورئيس الاتحاد الأوروبي فالحضور من أعلى مستوى، ودعي إلى تلك الجلسة رئيسا وزراء مصر وتونس ليقرر الثمانية ما سيقدموه إلى الثورتين. قال أوباما لرئيس وزراء مصر عصام شرف بحضور رئيس وزراء تونس أنهم سيقدمون عشرين بليون دولار، معظمها ستخصص لمصر دعماً لمسيرتكم نحو الديموقراطية. وتدخلت لأنني وجدت حرجاً لدى رئيس الوزراء التونسي فقلت على كل حال إن المنطقة برمتها تحتاج الى عناية ورعاية، ويا سيادة الرئيس موضوع العالم العربي وموضوع فلسطين موضوع مهم فرد: بالطبع. وذكر أوباما موضوع المفاوضات فقلت له لا، علينا أولاً بحث موضوع المستوطنات، فقال لي أنت تعرف موقفنا من المستوطنات ولكن أمن إسرائيل. فقلت له أن أمن إسرائيل موضوع يجب أن يرتبط بأمن المنطقة كلها وأنني سأقول هذا الكلام فقال لي وأنا سأرد عليك. وفعلاً جلسنا وتحدثت أن أهم ما يمكن فعله لأمن منطقة الشرق الأوسط ولاستقرار منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى التغيرات والأموال التي تُرصد لدعم الربيع العربي في مصر وفي تونس، هو موضوع الفلسطينيين ولا بد أن يأخذوا حقهم وتقوم الدولة الفلسطينية، فقاطعني حينها أوباما قائلاً: والأمن الإسرائيلي. وقلت أرجو أن يكون الأمن الإسرائيلي جزءاً من الأمن العام في المنطقة. ما هو انطباعك عن الرئيس بوتين؟ - وجدت بوتين شخصية ظريفة على رغم التحفظ الذي يظهر في شخصيته إلا أنه كان لطيفاً جداً معي ودعاني إلى بيته الريفي حيث دار بيننا حديث طويل تطرقنا خلاله إلى المنطقة ككل وكل قضاياها، وهو دعاني خصيصاً لذلك. السياسة الروسية بحد ذاتها كانت مريحة بالنسبة لنا فهناك راحة أساسية عندما تلتقي بوتين فأنت تعرف أنك تلتقي برئيس دولة سياسته متماشية مع سياستنا من ناحية فلسطين ومن ناحية العالم العربي، صحيح بدرجة أقل من الاتحاد السوفياتي السابق ولكن يظل أنك تتحدث مع رئيس دولة لها تاريخ صديق معنا. ماذا كان موقفك كأمين عام لجامعة الدول العربية عندما تبيّن أن القذافي كان يحاول اغتيال الملك عبدالله بن عبدالعزيز؟ - كان هذا من أسوأ ما يمكن: أن يظهر ضلوع رئيس دولة أو دولة عربية في تخريب دولة عربية أخرى أو محاولة قتل رئيسها. لم يثر الأمر معي، كما أثير مع المخابرات وغيرها، إنما قطعاً كان الموضوع من أسوأ ما يمكن ولا يجوز، ويمكنني القول إن ممثلي القذافي مثل عبد الرحمن شلقم وعلي عبد السلام التريكي لم يكونا من مؤيدي هذا الأسلوب وأنا لدي علاقات طيبة جداً معهما، وكنا نستطيع أن نلتقي في قاعة مقفلة ونتحدث بمنتهى الحرية. وللحقيقة وللتاريخ كانا في غاية الضيق من طريقة إدارة القذافي الأمور. وتجربتك مع الملك عبدالله بن عبدالعزيز؟ - الملك عبدالله شخصية أبوية وشخصية تنشر الاطمئنان حولها فتشعر براحة عامة في وجوده، الكل يحترمه والكل يستمع إليه والكل يحاول مجاملته، إلا أن للملك وجهات نظر فيها أصول، عقلانية ومنطلقة من إيمانه الحقيقي، العربي والإسلامي. سياسته مستندة إلى ثوابت والى عقيدة معينة لديه. وكنت دائماً أطمئن إليه. ناقشت معه مواضيع عدة وكان يعرف بماذا أتفق معه وبماذا أختلف معه، ونلتقي مرة أخرى وأقول له رأيي. مثلاً موضوع المبادرة التي أطلقتها في الجامعة العربية حول رابطة الجوار العربي وتلك مبادرة محسوبة ومدروسة ولها جذور دولية معينة. عندما أطلقتها في سرت كنت أدخلت تعديلاً على طريقة إدارة القمم بحيث يكون للقمة جلسة مفتوحة ثم بالضرورة جلسة مغلقة لا يحضرها إلا الرؤساء ووزراء خارجيتهم فقط لنتمكن من فتح الملفات والحديث بحرية وباشرنا بتنفيذها منذ فترة. بعد حديثي علناً في موضوع الرابطة في سرت ورئيس القمة القذافي، شرحت في الجلسة المغلقة المقصود منها والمصلحة منها، وفي الثواني الأخيرة من حديثي دخل الرئيس مبارك وقاطعني وقال أنا غير موافق على ذلك. فقلت له لماذا يا سيادة الرئيس؟ قال: كده، أنا أرى ضرراً. بقية الحضور لم يعلقوا. بشار الأسد ألقى كلمة حمّالة أوجه، بين التأييد وعدم التأييد، والكل سكت. إنما تم التوافق عربياً على أن يُشكر الأمين العام ويُوضع الأمر على الأجندة لمناقشته لاحقاً. وكان الأمير سعود الفيصل رئيس الوفد السعودي لأن الملك لم يحضر. بعد القمة دعاني الأمير سعود لزيارة السعودية ومقابلة الملك عبدالله. توجهت إلى لقاء الملك فتطرق إلى الموضوع وشرحت له وجهة نظري وقلت أنه كان هناك اعتراض لكن أنا طرحت وجهة نظري وبقيت عندها وبقوا هم عند وجهة نظرهم، وأنا كان تبقى على رئاستي للجامعة بضعة أشهر على كل حال. وكان طرح لوجهات النظر والملك كان لطيفاً جداً واستمع لي. هل كان حمد بن جاسم رئيس وزراء قطر ووزير خارجيتها متعباً بالنسبة لك؟ - أبداً، كان صديقي وكنا حين يعرض علي أمراً نتفق أو نختلف منذ البداية لأننا كنا نتحدث بصراحة: فأقول هذا أمر لا نستطيع السير به أو هذا أمر سنسير به على الشكل التالي، ويقول هو هذا الأمر سنسير به على الشكل التالي، وعندما نكون متفقين على السير بموضوع ما نقول هذا يمكن عمله وهذا لا يمكن عمله، وهذا لا يمنع أنه كانت هناك خلافات في بعض النقاط. ولكن الحقيقة أن الوزير حمد بن جاسم من أكفأ الناس، يريد أن يحقق إنجازات، لا يريد تضييع الوقت ويقدر قيمة الوقت ويعرف قيمة المال وهدفه أن يكون الأغنى في العالم العربي. هل وجدت صعوبة في التعامل مع معمر القذافي يوم كنت وزيراً للخارجية؟ - كانت هناك بعض الصعوبات لأن القذافي كان لديه انطباع بناه على أساس تقارير استخباراتية ليبية أن عمرو موسى يميل إلى الولاياتالمتحدة، وأن الأميركيين هم مَنْ رشحوه وزيراً للخارجية. هذا ما قيل لي عن لسانه، كما نقل لي أيضاً عن لسان بعض كبار المسؤولين السوريين بأن إشاعة وصلتهم عني بهذا المضمون. عمر سليمان، رحمه الله، هو مَنْ أبلغني بذلك. يبدو أن العواصم العربية كانت مهتمة بمعرفة مَنْ سيكون وزير الخارجية المصري بعد خروج عصمت عبدالمجيد إلى الجامعة العربية إذ كانت مصر حينها لا تزال في عافيتها السياسية. بسبب هذا الانطباع لم يكن القذافي يحب التعامل معي كثيراً. ولكن بعد فترة من متابعتهم لعمل الوزير الجديد، وخصوصاً بعد أن تعاملت معهم بالطريقة نفسها، أي من دون اهتمام بموقفهم أو رد فعلهم، بدأت هذه الإشاعة تتلاشى ويظهر أنها غير صحيحة وأصبح القذافي مقبلاً على التعامل معي وإن بحذر، وأنا كذلك بدأت التعامل معه، وبحذر أيضاً، إنما كان تعامله الأساسي مع مصر عبر التواصل مع الرئيس ومبعوثيه الشخصيين. وكذلك عن طريق الاستخبارات وبالذات عمر سليمان وعبر أسامة الباز، ولكن بدأ التعامل الجدي والمباشر بيننا بمعنى الكلام في السياسة والقضايا العربية وبصراحة كاملة وثقة في السنوات الأخيرة لي كوزير خارجية ثم بعد أن توليت منصب الأمين العام للجامعة العربية. (غداً حلقة سادسة وأخيرة)