أنا واحد من غمار السودانيين الذين ما عادوا يصدقون شيئاً مما يقوله الحزب منذ ربع قرن. ولذلك لم ولن أصدق أن رجل الأمن السابق صلاح قوش لديه مشروع للانقلاب على البشير. وعدم التصديق ناجم عن كثرة أكاذيب الذين بدأوا عهدهم المشؤوم في 1989 بزعمهم – في معرض تعريفهم بهويتهم بعد نجاح انقلابهم- أنهم مجرد ضباط وطنيين لا انتماء لديهم إلى أية جهة حزبية. وكان ذلك لتغطية تنفيذ مسرحية الذهاب إلى القصر الجمهوري، وذهاب العقل المدبر السابق للنظام حسن الترابي إلى السجن حبيساً! بيد أن حكاية انقلاب قوش المزعوم تكشف عنصراً مهماً: أن مسألة "من يكون البديل؟" التي ظل الحزب وأتباعه يستخدمونه على مدى عقدين موجودة ومستعرة الأوار في بيت النظام. وقد أذكاها إعلان البشير أنه لن يرشح نفسه للرئاسة حين تنقضي ولايته الحالية بعد عامين. وكان يفترض أن يختار مؤتمر الحركة الإسلامية الذي عقد منذ أسبوعين مرشحاً بديلاً. لكن مسألة "من يكون البديل؟" عكست اتجاه الريح في البيت الحاكم، وكشفت التشظي داخله. كما أظهرت أن انشطاراً أفقياً ورأسياً يمزق قواعد الحزب الذين لا هم لهم سوى الاستئثار بموارد البلاد و"التكويش". فقد أضحى سافراً إثر إعلان البشير المشار إليه أن إصابته خطيرة، الصراع بين مراكز القوى التي تستند إلى العصبية القبلية في إدارتها لمعركة البقاء (قبيلة الرئيس وقبائل المتحالفين معه ضد قبيلة النائب الأول للرئيس والمحسوبين عليه). وانتهت الجولة الأولى من الصراع بإقصاء من لا يستندون إلى خلفيات عرقية، كالدكتور غازي صلاح الدين، والنائب الثاني للرئيس الحاج آدم، وغيرهما. كلما زاد تململ السودانيين ألقمهم حراس المشروع الإسلامي حجر مسألة "من يكون البديل؟". وتُضرب أمثلة بأسماء من قبيل الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني. على رغم إجماع السودانيين غير المتحزبين- وهم الغالبية العظمى- على أن الصادق والميرغني وحزبيهما اللذين أضحيا شركتين عائليتين مغلقتين لا يصلحون لحكم السودان المقبل، الذي يريد له بنوه- شيباً وشباباً- أن يكون طاهراً من المصلحة الحزبية، وحكم المحسوبية والنسب، ومن الفساد والقوانين الخاصة والانحلال الخلقي. لكن هل عَدِمَ السودان رجالاً يمكن أن يقودوا سفينته إلى بر الأمان؟ وهل من الضرورة أن يكون البديل حزبيين وقياديين متفرغين للعمل الحزبي وإتقان تكتيكات البقاء وتجاوز مطبات الأنظمة العسكرية التي تغدر بالبلاد؟ البديل المنطقي والوحيد هو حكومة من التكنوقراط من أبناء السودان الشرفاء الذين صبروا وتحملوا النظام داخل السودان، وأبناء السودان وبناته الأحرار من التكنوقراط ممن حملهم النظام على الفرار إلى بلدان الشتات. آلاف من حملة الألقاب العلمية الذين تزدهي بهم سوح الجامعات الأميركية والأوروبية، ومنظمات الأممالمتحدة. مئات منهم تخصصوا وتخصصن في ما تحتاج إليه بلادهم المهيضة الجناح، من إعمار وإعادة إعمار وبناء وتأهيل. هم وحدهم الضمانة لإرساء نظام بمجتمع عادل ومنصف، وإعلام صادق لا يغسل أدمغة المتلقين، وتعليم قوي يتناغم مع حاجات سوق العمل ومتطلبات التنمية، وقضاء مستقل، وخدمة صحية توفر للسودانيين الفقراء علاجاً شافياً في مقابل الضريبة التي يدفعونها للدولة. عشرات الآلاف من أبنائنا ونسائنا العاملين في مهنة القانون الذين ما باعوا ضمائرهم، ولا خانوا عهودهم لوطنهم، واضطروا إلى الهجرة فأضحوا عماداً وركيزة لأكبر مؤسسات الطاقة في العالم، ومستشارين لأضخم الشركات والمؤسسات والحكومات. هؤلاء بما توافر لهم من حنكة وتجربة واطلاع واحتكاك بالتجارب الأممية مستعدون للتضحية بما هم فيه من امتيازات ليعودوا لإعمار سوح المحاكم، وإثراء مهنة القضاء الجالس، ووضع الصياغات السديدة لمشاريع القوانين المطلوبة للعودة بالسودان إلى روح العدالة والإنصاف والضمير السليم. آلاف الأطباء السودانيين في شتى بقاع الأرض- خمسة آلاف منهم في مستشفيات بريطانيا والجمهورية الآرلندية- جاهزون لتلبية نداء الوطن لا يريدون سوى بيئة عملية تستوعب طموحاتهم، وتوفر لهم حاجتهم من المعدات والأدوات والتجهيزات والأدوية ليحاكوا الخدمات الصحية في البلدان التي تحتفي بمواهبهم، وتشجع طموحاتهم. وداخل السودان مئات الآلاف من المهنيين مستعدون لاستعادة روح النشاط والبذل، وإذكاء التنافس الشريف في ما بينهم لمزيد من العطاء، من دون خوف من فظائع إدناء أهل الثقة والولاء والانتماء. وهؤلاء ورفاقهم في الشتات لا ينتظرون دعوة ليعودوا وزراء أو وكلاء وزارات، بل ناخبون عاديون يأكلون "حلالهم" من كدحهم ومعاناتهم "المعقولة"، ويتمتعون بالامتيازات التي تؤهلهم لنيلها وظائفهم وخبراتهم وضرائبهم. هؤلاء وأولئك يعرفون جيداً أكثر من غيرهم أن من شاء منهم خوض المعترك السياسي، فسيعتزل الوظيفة المدنية، وأنه إذا انتخب لأي مهمة تمثيلية، فسيكون خادماً للشعب، وسينفق على حملاته واستقبالاته وهداياه إلى ناخبيه من حر ماله، وليس من بيت المال. هؤلاء لن تتغير منازلهم وسط أحياء أهاليهم. ولن يزيدوا مواردهم باسم الدين والزكاة والعمل الخيري. ولن يكون بين قادتهم من يصطنع لهم مناصب الاسترزاق. البديل جاهز في السودان، ليس على شباب السودان وشاباته سوى أن يدركوا ذلك. * صحافي من أسرة «الحياة». [email protected]