النشوة التي عاشتها إسرائيل في اليوم الأول من عملية «عمود السحاب»، بعد نجاحها في اغتيال القائد الفعلي للجناح العسكري لحركة «حماس» أحمد الجعبري، فقدتها في يومها الأخير من الحرب. وكانت تل أبيب رسمت خلال الساعات الأخيرة، قبل التوقيع على اتفاق وقف النار، عبر قصفها المكثف في غزة والذي أحدث دخاناً كثيفاً ظهر وكأنه يغطي مساحة شاسعة من غزة، صورة أراد منها الثلاثي نتانياهو-باراك-ليبرمان نصراً حقيقياً لكل منهم في معركتهم الانتخابية وتظهر في الوقت نفسه جبروت الجيش الإسرائيلي. صحيح أن الجيش كقوة عسكرية لم يخرج مهزوماً من حملة «عمود السحاب» ولم يتكبد خسائر بشرية في صفوفه، وكل ما خسره من ملايين الدولارات خلال ستة أيام من حملة التهديد والترويج لاستعداداته لحملة برية على غزة، لن يؤثر في حسابات إسرائيل لدى تلخيصها الخسارة والربح في المعركة، لكنه أمام تساؤلات عدة حول ما حققه من أهداف. ورئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، ووزيرا الدفاع ايهود باراك والخارجية افيغدور ليبرمان، الذين حاولوا في ظهورهم في المؤتمر الصحافي بعد توقيع الاتفاق رسم صورة النصر لهم من العملية وتحقيق إنجازات، يجدون أنفسهم من الآن أمام معركة داخلية لمحاسبتهم على هذه العملية، معركة لا تختلف كثيراً عن تلك التي قادها نتانياهو بنفسه بعد عملية الرصاص المصبوب، ضد خصمه ايهود اولمرت. وأكثر الحياديين في تقييم نجاح حكومة إسرائيل في تحقيق أهداف العملية، يقولون إنه لا يمكن حسابه اليوم، فالأمر يتطلب وقتاً ليتأكد فيه الإسرائيليون أن عملية «عمود السحاب» أعادت من جديد قوة ردع إسرائيل أمام «حماس» والتنظيمات الفلسطينية في غزة وبأنها جلبت الهدوء لسكان الجنوب وحولت غزة إلى مدينة شبه منزوعة السلاح. فلا تهريب من ليبيا ولا دعم من إيران و «حزب الله» ولا تعزيز للقدرات العسكرية... كل هذا يتطلب وقتاً من الزمن حتى يعلن متخذو قرار الحرب أنها بالفعل حققت أهدافها وأن المعركة التي اختير لها اسم «عمود السحاب»، سقفها في السماء عالِ، كانت فعلاً «عمود سحاب». الواضح من النتائج الأولية أن هذه العملية، التي يقول قادة في الأجهزة الأمنية إنها نفذت بعد دراسة جيدة لاستخلاصات الحرب الأولى على غزة «الرصاص المصبوب»، لم تحقق أهدافاً حاسمة من ناحية قوة الردع أو من ناحية ضرب قدرات «حماس» و «الجهاد الإسلامي» وبقية التنظيمات الفلسطينية المسلحة. وما فعلته إسرائيل أنها دخلت إلى هذه الحرب كما دخلت في حرب لبنان الثانية عام 2006 وحرب غزة الأولى 2008-2009، من دون أن تخطط استراتيجية للخروج منها ومن دون أي تخطيط لنقطة النهاية. الضربة الشعبية نتانياهو الذي نام ليلة التوقيع على الاتفاق بنشوة تحقيق أهدافه من هذه العملية، استفاق على معارضة واسعة وانتقادات لاذعة، لا تقتصر على اليمين والمتطرفين والمتعصبين، الذين اعتبروا اتفاق التهدئة وعدم الدخول إلى عملية برية خنوعاً لحماس، بل شملت أمنيين وعسكريين سابقين وخبراء، اعتبروا أن نتانياهو اتخذ قرار الدخول إلى غزة لأهداف انتخابية تعزز مكانته الشعبية، أكثر مما هي معركة لتحقيق الأهداف الأساسية المعلنة: «استعادة قوة الردع وإعادة الهدوء لسكان الجنوب ومنع تهريب الأسلحة». إذا أراد متخذو قرار العملية أن يتحدثوا عن إنجازات فلم يجدوا سوى التفوق في قدرة منظومة «القبة الحديدية» في مواجهة الصواريخ ونجاح نتانياهو في الحصول على الشرعية الدولية والتعاون المصري والتفهم الأوروبي والأهم المساندة الأميركية. ففي عمليته هذه تجاوز نتانياهو أزمته مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، التي تفاقمت بعد الانتخابات الأميركية بسبب قيام رئيس الحكومة الإسرائيلية بالدعم العلني لمنافس أوباما ميت رومني، والتدخل المباشر في الانتخابات الأميركية. اليوم، بعد «عمود السحاب» باتت العلاقة مختلفة. فإلى جانب الجهود الكبيرة التي بذلها أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، تنتظر إسرائيل دعماً أميركياً جديداً لنصب المزيد من منظومات «القبة الحديدية» تحت عنوان «التزام أميركا بدعم أمن إسرائيل». لكن من يجد نفسه مضطراً للدفاع عن القرار الإسرائيلي في هذه العملية، يبحث عن تعابير تظهر نصراً إسرائيلياً. رئيس أركان الجيش بيني غانتس، الذي واجه في اليوم الأخير من العملية احتجاجاً وتذمراً بين جنود الاحتياط الذين وصلوا إلى قطاع غزة ينتظرون أمر الدخول إلى عملية برية، اختار بعد يوم من توقيع الاتفاق لقاء مجموعة منهم ليتفاخر بإنجازات مؤسسته العسكرية. وكرر ما اسمع على مدار الخمسة أيام الأخيرة للعملية من نتانياهو وباراك، أن إسرائيل حققت إنجازات مهمة وكبيرة بكل ما يتعلق بتدمير مخزون الصواريخ البعيدة المدى الموجودة بحوزة التنظيمات الفلسطينية في قطاع غزة. وفي محاولة للتخفيف من تأثير الأصوات التي أطلقت ضد الاتفاق مع حماس، راح يقول إن الغرض من العملية كان التوصل إلى واقع جديد في المنطقة الجنوبية. وأضاف: «نتائج هذه العملية ستتضح رويداً رويداً في المستقبل وفق التطورات على الساحتين السياسية والأمنية على حد سواء». وساند غانتس في حملة رفع المعنويات هذه، رئيس الطاقم السياسي والأمني في وزارة الدفاع عاموس جلعاد، الذي قال إن الغرض من اتفاق التهدئة هو توفير الحماية لسكان الجنوب فيما إدخال قوات عسكرية إلى قطاع غزة والاستيلاء عليه أمر ممكن. ومن المتوقع أن يحقق إنجازات عسكرية. ولكن عملية من هذا القبيل قد تنطوي على عواقب وخيمة في كل ما يخص العلاقة مع جيراننا»، بحسب جلعاد. وأكد هو الآخر الهدف الذي يسعى متخذو قرار العملية إلى إبرازه في كل مناسبة ممكنة وهو أن حماس تلقت ضربات قاصمة للقدرات العسكرية. وفي حسابات الإنجازات اعتبر الإسرائيليون اغتيال الجعبري أول وأبرز إنجاز، ثم هناك القبة الحديدية. والقائمة الطويلة التي تطرح لا تشمل واحداً من الأهداف التي وضعتها العملية. وفيما أطلقت صواريخ فجر وغراد في الأيام الأخيرة من العملية، تصر إسرائيل على أنها حققت إنجازاً كبيراً في ضرب منظومة الصواريخ للمدى المتوسط، ودمرت 30 في المئة من ترسانة الصواريخ . ولإظهار المزيد من الإنجازات راحت تتحدث عن أنها ضربت أكثر من 1400 هدف ودمرت مباني حكم في غزة: محطات شرطة، بنى تحتية ومخزونات وسائل قتالية. أما ما اسمتها إسرائيل «النشاطات الجراحية» لسلاح الجو، فهذه، بحسب الإسرائيليين، كانت دافعاً لمنع الانتقادات الدولية، إذ «أثبت الجيش في هذه النشاطات تفوقاً استخبارياً واستراتيجياً كبيراً ونجح في أن يحقق الزمن والشرعية الدولية لمواصلة الحملة». أما من حيث العلاقة مع مصر والتعهد المصري لمكافحة تهريب السلاح وضمان الاتفاق، فهنا إسرائيل تروج للأمر كما لو كان إنجازاً غير متوقع. وبحسب ما يرى الإسرائيليون، فإنهم نجحوا في ربط نظام الإخوان المسلمين للتوسط مع حماس. ويكمن الإنجاز في أنه «إذا خرقت حماس التفاهمات – فستخاطر بنزاع مع سيدها، الإخوان المسلمين. وعليه فقد نجحت إسرائيل في أن تحول مصر إلى وسيط يساهم أيضاً في الحفاظ على اتفاق وقف النار بينها وبين حماس، ولاحقاً اتفاق تهدئة وربما هدنة طويلة الأمد. فهي تتوقع من مصر أن تضمن تثبيت قاطع أمني قريب من الجدار بين قطاع غزة وإسرائيل، وتتعهد حماس بأن تمتنع عن وضع عبوات ناسفة على طرفه وتكف عن استخدامه لتفجير سيارات الدورية العسكرية الإسرائيلية أو لخطف الجنود الإسرائيليين. وتتوخى إسرائيل من اتفاق التهدئة المقبل، أن تتعهد حماس بالامتناع عن تنفيذ عمليات تفجير ضد إسرائيل وأن تأخذ على عاتقها منع المنظمات والفصائل الأخرى في القطاع من إطلاق الصواريخ. كل هذه الطموحات الإسرائيلية، جرى الحديث عنها خلال المفاوضات حول وقف النار من خلال الوسطاء المصريين. ووفقاً للإسرائيليين فإن مصر أبدت توجهاً إيجابيا نحوها، وهو ما تعتبره إسرائيل إنجازاً. لكن هذه الأمور لم تتبلور بعد في اتفاق مكتوب، لذلك يخرج أولئك الذين تحمسوا للحرب وساندوها خصوصاً في اليمين المتطرف، ويهاجمون الثلاثي نتانياهو- باراك- ليبرمان على موافقتهم على اتفاق وقف النار واعتبروا أن إسرائيل خرجت مهزومة من هذه الحرب ورفعت الراية البيضاء. وبما أن هذه المعركة انطلقت ضمن أهداف سياسية – انتخابية لنتانياهو، فإن معارضي نتانياهو جعلوا من الاتفاق سلاحاً حاداً ضده في معركتهم الانتخابية. وكان زعيم المعارضة شاؤول موفاز، أول من استغل ذلك إذ أطلق في اليوم الأول بعد التهدئة تصريحات انتخابية أكد خلالها أن عملية «عمود السحاب» لم تحقق أهدافها إذ أن سكان جنوب البلاد لا يتمتعون بالأمن ولم تتم استعادة قوة الردع الإسرائيلية. أما حماس فحققت مطالبها من خلال اتفاق وقف إطلاق النار، فيما يشعر الإسرائيليون بأن المرحلة المقبلة في الصراع قريبة. وصرحت تسيبي لفني، التي تنوي خوض الانتخابات على رأس حزب جديد، بأن نتانياهو عزز من قوة حركة حماس. وكذلك فعل يائير لبيد، زعيم حزب «يوجد مستقبل»، الذي قال: «أنا أيدت العملية ودافعت عنها وعن الحكومة طيلة أيامها. لكن أملي خاب في هذه الحكومة. كان عليها أن توقف الحرب في أول يومين أو أن تستمر بها حتى تصفي قوة حماس تماماً». ولكن هذا ليس موقف المعارضة الإسرائيلية وحدها، فإن استطلاعات الرأي تشير إلى أن الجمهور الذي كان يؤيد نتانياهو بنسبة 84 في المئة في بداية الحرب، أصبح حالياً يقف ضده. فقد دل استطلاع رأي بثته القناة الثانية المستقلة للتلفزيون في إسرائيل مساء الخميس إلى أن 41 في المئة فقط راضون عنه (31 في المئة غير راضين و28 في المئة يعطونه علامة متوسطة). والسؤال هو كيف ستكون نهاية الصراع بين نتانياهو ومنافسيه في الانتخابات، التي ستجرى بعد شهرين؟