لم تستطع الحركة الوطنية الفلسطينية التمترس عند الأفكار التي تأسّست عليها، واستمدت شرعيتها منها، منذ قيامها أواسط الستينات، بل تراجعت عنها أو بالأصح انقلبت عليها. مثلاً، قامت تلك الحركة على فكرة التحرير، أي تحرير فلسطين («من المَيّه للمَيَه»)، مع ما يعنيه ذلك من إنهاء وجود إسرائيل باعتبارها دولة صهيونية، ومجالاً لتوطّن من أراد من يهود العالم. ويأتي في هذا الإطار رفض هذه الحركة لمرجعية القرارات الدولية التي تنطلق من الاعتراف بإسرائيل، وأيضاً مناهضتها مشاريع التسوية، أو المساومة، على حقّ الفلسطينيين في ارض الآباء والأجداد. لم تثبت الحركة الوطنية الفلسطينية عند هذه الفكرة، بل لم تعمل حتى على تحويرها، أو أقلمتها، بما يتلاءم مع التطورات الحاصلة في نظريات تشكّل النظم السياسية، أو بما يناسب التحولات في مجال الصراع مع إسرائيل ذاتها، بعد أن بات حوالى 60 في المئة من يهودها من مواليدها. ولعل المحاولة الوحيدة التي أُجريت في هذا الاتجاه تمثلت بطرح فكرة إقامة دولة ديموقراطية في كامل فلسطين يعيش فيها العرب واليهود معاً، لكن هذه المحاولة لم تكتمل، إذ ظلت مجرد شعار سياسي من دون شروحات أو تضمينات سياسية أو فكرية، ما أوحى بأنها طرحت لمجرد الاستهلاك السياسي الدولي، أو كانت محض اجتهاد شخصي لعدد من القياديين والناشطين الفلسطينيين المتنوّرين. وعلى أية حال، فالترويج لفكرة الدولة الديموقراطية الواحدة (أواخر الستينات) لم يستغرق طويلاً، إذ إن الفلسطينيين ذهبوا في اتجاه آخر، يتمثّل بقبولهم حلاً يُبنى على التسوية والمساومة، بدفع من التداعيات الناجمة عن حرب تشرين الأول (اكتوبر) 1973، ويتضمن إقامة سلطة في الضفة والقطاع. وكما هو معلوم بات هذا الخيار، في الثقافة السياسية الفلسطينية، يعرف باسم «البرنامج المرحلي»، في دلالة مكشوفة (وربما ساذجة) تفيد بأن الفلسطينيين يقبلون بإقامة سلطة لهم في جزء من وطنهم على أن يواصلوا بعدها نضالهم لتحرير باقي الوطن. وفي الواقع، فهذا البرنامج، رغم شموله حق الفلسطينيين في العودة إلى جانب حقهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة في الضفة والقطاع، كان يتضمن، أو يوحي بإمكان الاستعداد لإجراء نوع من مقايضة ما، أو مساومة، بين حق وحق، كما اعتبر بمثابة تقارب سياسي فلسطيني مع القرارات الدولية، المتعلقة بقضية فلسطين. بهذا المعنى، فإن «البرنامج المرحلي» كان بمثابة الممهّد أو الحاضن الطبيعي لاتفاق أوسلو (1993) الذي وقّّّع بين قيادة منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية. واللافت أن هذا الاتفاق (المجحف والناقص والمهين) لم ينه فقط فكرة الحل المرحلي عند الفلسطينيين (المتعلقة بتحرير فلسطين)، وإنما نقل أيضاً هذه الفكرة إلى ملعبهم هم، بحيث بات حقّهم في إقامة دولة لهم (ولو في الضفة والقطاع المحتلين) يحتاج إلى مراحل (انتقالية)، ضمنها «مرحلة» اكتساب ثقة الإسرائيليين بنياتهم! هكذا وصل الفلسطينيون إلى حل يتأسّس على الفصل، أي الانفصال في دولة عن الإسرائيليين، وهو ليس مجرد فصل ديموغرافي بين مجموعتين مختلفتين من البشر، وإنما هو أيضاً انقسام جغرافي، يتيح للفلسطينيين الحصول على أقل من ربع وطنهم التاريخي فقط، فضلاً عن انه يقتطع جزءاً من شعبهم (فلسطينيو 48) من جسمهم الحي، ويدخلهم في نطاق المواطنة الإسرائيلية، ومن دون البتّ بحقوق اللاجئين الفلسطينيين ومكانتهم القانونية. الآن، إذا تمعنّا في ما حصل، وعلى ضوء التجربة، يمكننا ببساطة ملاحظة أن الحركة الوطنية الفلسطينية ما كانت مضطرّة لكل هذه التراجعات أو التنازلات، رغم كل الضغوط التي مورست عليها. ففي المرة الأولى حينما تبنّت مشروع الدولة الديموقراطية الواحدة كان يمكنها الاشتغال على هذا المشروع وتوضيح مضامينه، بدلاً من إطاحته. والواقع أن هذا المشروع يفتح على تدرّجات وتوسّطات عدة، مثل إقامة كيان كونفيدرالي أو فيدرالي (بين فلسطين وإسرائيل) إلى إقامة دولة ثنائية القومية (وكلها أشكال لنظم سياسية تضمن الحفاظ على الخصائص والحقوق الثقافية والإثنية للمجموعات البشرية المتمايزة التي تعيش في إقليم واحد) وصولاً إلى دولة المواطنين، التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن الدين والإثنية والعمر والجنس واللون. وميزة الحلول التي ذكرناها أنها لا تتأسّس على الانفصال الجغرافي والديموغرافي، وإنما على قبول العيش في دولة واحدة ديموقراطية ومدنية (بغضّ النظر عن شكلها أو مستواها)، وبالتالي الحفاظ على وحدة أرض فلسطين التاريخية. وميزة حلّ كهذا، أيضاً، تكمن في أنه ينقل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من الصراع على الحجر إلى الصراع على البشر، أي من مجرد كونه صراعاً جغرافياً، على الأرض، وعلى الماضي المثقل بالرموز والأساطير الدينية، إلى كونه صراعاً على القيم المتعلقة بالحرية والديموقراطية والحقيقة والعدالة؛ وهي قيم مدنية حديثة، تتلاءم مع متطلبات المستقبل، بقدر ما تتنافى مع الأساطير الدينية والقديمة التي تبرّر إسرائيل ذاتها بها. حتى عندما اتجهت الحركة الفلسطينية نحو تبنّي البرنامج المرحلي (أواسط السبعينات)، فإنها ما كانت مضطرّة لمغادرة فكرة الدولة الديموقراطية الواحدة، لأن إقامة دولة للفلسطينيين في الضفة (بغض النظر عن مآلاتها) لم تكن لتتضمن حق العودة للاجئين ولا أية رؤية مستقبلية لمكانة فلسطينيي 48 في إطار مفهوم وحدة شعب فلسطين، كما لم يكن فيها أي استشراف لمستقبل إسرائيل في المنطقة، ولا لمستقبل الإسرائيليين (اليهود) فيها، بعلاقتهم بالفلسطينيين وبمحيطهم. المعنى أن العقل السياسي الفلسطيني كان في مقدوره اجتراح معادلات أو صيغ سياسية تناسب بين الحقيقة والعدالة، وتوائم بين المطلق والنسبي، وكان في إمكانه طرح حلول مرحلية من دون توهّم اعتبارها بمثابة حلول نهائية ومطلقة، لا سيما في منطقة مفتوحة على تحولات وتطورات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، لا بد من أن تؤثّر في النظم والوحدات السياسية القائمة، وإسرائيل بذاتها ليست استثناء من ذلك (وهو ما أكدته الأحداث الأخيرة). طبعاً، ثمة من سيقول إن إسرائيل لن ترضى بحلول أو سيناريوات كهذه، لكن هؤلاء يعرفون أن إرضاء إسرائيل غاية لا تدرك، وها هي المفاوضات مضت لها قرابة عقدين وما زالت إسرائيل عند المربع الأول. فضلاً عن ذلك، فالحلول ذات الطبيعة التاريخية لا تحتاج إلى مفاوضات بقدر حاجتها الى تغيرات من طبيعة تاريخية، ولعل ما يحصل وما سيحصل في منطقتنا، من انفتاح الأفق نحو دولة المواطنين، يمكن أن يعزّز ما ذهبنا إليه في شأن تضعضع مكانة إسرائيل، كدولة استعمارية وعنصرية ودينية وعسكرية في المنطقة، وفي شأن التصورات المستقبلية المتعلقة بحل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين.