اكتشف السوريون الساعون إلى تحرير بلدهم من الاحتلال الأسدي أخيراً، أنهم بحاجة إلى «غاندي» تلتف حوله المجاميع السورية بتنوعها وتمايزها واختلافاتها وخلافاتها. أدركوا متأخراً أن النضال من الخارج باتجاه الداخل بحاجة إلى شخصية ذات جوانب «كارزمية» تجذب الجميع باتجاه الهدف الأسمى. عرفوا بهذا الأمر بعد مرور أشهر سلبية طويلة، لذلك اخترعوا أحمد معاذ الخطيب. جاءوا بالرجل من كواليس الدعوة المعتدلة والصوت الخفيض، وقالوا له: أنت بطلنا، رمزنا، موحدنا، أنت صوتنا العالي، صحيح أن تاريخك النضالي ليس واضحاً بشكل كافٍ، وصحيح أنك لستَ مفكراً عظيماً يتناقل الناس نظرياته ورؤاه، وصحيح أنك لست معروفاً بحروبك في الإصلاح الاجتماعي، لكن نوعيتك هي التي نريدها بالضبط في هذه المرحلة، إسلامي معتدل ينحاز الشعب إليه، وسليل عائلة دمشقية ينتهي نسبها بالحسن بن علي رضي الله عنه، فتلتف حوله طوائف الغالبية السورية كافة، وقليل حظ من التاريخ السياسي، فلا خصوم سياسيين له، ورجل يلبس البدلة الإفرنجية بلا مواقف عدائية للغرب. الوضع في سورية اتخذ مساراً مختلفاً عن الأوضاع في تونس ومصر واليمن. الثورة الخاطفة لم تجدِ نفعاً في البلاد الشامية، لذلك كان لا بد من اختراع شخصية غاندية تعمل بصبر وروية على مدى زمن قد يطول، ويكون دورها الرئيس جمع الأصوات المعارضة (العسكرية والمدنية) في حنجرة واحدة. عرف صناع قرار المعارضة أخيراً أن المقاتلين في الميدان (الذين يذكرون الله كثيراً في فيديوات "يوتيوب")، بحاجة إلى شخصية جاذبة تصنع منهم جيشاً منظماً يتبع مرجعية واحدة بدلاً من التشكيلات الحالية التي تتكون من جماعات متمردة، تأتمر كل منها بإمرة قائد ميداني ربما لا يعرف عن عملية تحرير سورية سوى أنها جهاد مقدس فقط! وأدركوا كذلك أن التظاهرات الحاشدة التي لا تتشكل إلا إثر كل صلاة جمعة بحاجة إلى رجل ذي زبيبة صلاة! عرفوا أن عليهم جر الشارع السوري الداخلي بواسطة حبل عاطفته! وترك مسألة الاعتراف الخارجي لظروف الضمانات والوعود المسنودة أصلاً، بتعيين المسيحي جورج صبرا رئيساً للمجلس الوطني السوري. مسلم معتدل للناس هنا، ومسيحي معروف بوطنيته للناس هناك، هكذا تستقيم الأمور وتعتدل من وجهة النظر السورية المعارضة. لا بأس إذاً من هذه الحركة الذكية، لكن على منظري المعارضة أن يضعوا في حسبانهم عدداً من الأمور التي تعضد هذا التوجه وتساهم في نجاحه في الغدين القريب والبعيد. أولاً: ينبغي للمجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أن يتفقا على دستور موقت للثورة السورية، يكون بمثابة ديباجة للدستور السوري الجديد الذي سيُكتب بعد القضاء على نظام بشار الأسد، ليس شرطاً أن يتحدث هذا الدستور عن التفاصيل الدقيقة للبناء السوري الحديث، وإنما يمكن الاكتفاء فقط بإعلان المحاور الرئيسة لشكل سورية المقبل ونظام علاقاتها الداخلية والخارجية، هذا الدستور الابتدائي الذي قد يكون على غرار إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي الصادر في 1789، سيؤمن جدار حماية للسوريين كافة بعد القضاء على الأسد، وسيجعل من غاندي الجديد شخصية قابلة للذوبان في المستقبل السوري، بحيث لا يظل طوال الوقت يرمي فردة حذائه الأخرى على الشعب للانتفاع بأختها الضائعة، ولا يسلب الشعب أحذيتهم في المقابل وينتفع بها ويبقيهم حافين، لكونه فقط «الرجل المتفق عليه»! عليهم أن يصنعوا دستوراً يؤكد ما قاله الشيخ الخطيب ذات يوم: السياسة وسيلة لا غاية، وعمل الأنبياء هو الهداية، ونفضل أن يصل الإيمان إلى أصحاب الكراسي، على أن يصل أصحاب الإيمان إلى الكراسي. ثانياً: على السوريين الذين يريدون أن يعبروا بغاندي الجديد إلى سماوات الحرية، عليهم كذلك أن يحتفظوا به للسنوات التي تلي إسقاط بشار الأسد. المزاج العام في سورية ليس مدنياً وليس ديموقراطياً، ولم يكن كذلك عبر التاريخ، وبالتالي فإننا لا نتوقع أن يتحول المجتمع بكبسة زر بعد سقوط نظام البعث إلى المدنية والديموقراطية. المجتمع سيمر بمرحلة انتقالية قد تطول وقد تقصر، وهذه المرحلة بحاجة إلى غاندي جاذب لا تقل أهمية دوره عن غاندي التحرير، لذلك فإنه ينبغي للسوريين أن يعوا أن وجود أحمد الخطيب على رأس الحكومة السورية، كرئيس لها أو مشرف عليها، في سنوات الانتقال بعد التحرير، سيجنب البلاد صدمة الحرية الجديدة، وما علينا في هذا الجانب سوى تخيل الوضع في ليبيا، لو كان غاندي التحرير الليبي مصطفى عبدالجليل ما زال موجوداً حتى اليوم! كل البلاد الجديدة على المدنية والديموقراطية بحاجة إلى عرّاب يشمل برعايته حركة التغيير حتى يكتمل بناء الروح الديموقراطية في نفس كل مواطن كبر دوره في المجتمع أو قل. ثالثاً: على غاندي الجديد أن يعرف أن التغيير في هذا الزمن لا يتأتى بقدرات الأفراد الخارقة، هذه الأنواع من التغيير ولى زمانها، التغيير الآن لا يمكن أن يكون إن لم تتضافر الجهود في إدارات يتغلب فكرها الجمعي على الأفكار والرؤى المفردة مهما بلغت من العبقرية والتفرد، عليه ألا ينجرف كثيراً خلف سحر وجاذبية الجماهيرية التي قد تتشكل له قريباً. عليه أن يدرك أن الالتفاف المتوقع حوله إنما هو التفاف حول رمز ذي شخصية اعتبارية، ربما يسقط بمجرد أن يتحرك بناءً على حقه في استخدام مصداته الدفاعية الجماهيرية! سينجح غاندي الجديد، سينجح إن لم تكبر ذاته الداخلية إلى الدرجة التي تحجب عن عقله أنوار الهدف الحقيقي، وسينجح إن لم يستخدمه أبطال النضال ك «خيال مآتة» فقط كما يقول إخواننا المصريون. * كاتب وصحافي سعودي [email protected]