الصور وحدها تتكلم، لا تحتاج إلى شرح ولا إلى كلام يوضح ما تحمل من رموز ومعان، الصور لا تخون الواقع، وإن أضفت عليه ملامح أو لمسات، الصور «تؤسطر» هذا الوقع من دون أن تُدخِل عليه ما ليس من طبيعته. إنها «الصور بذاتها»، كما عبَّر رولان بارت في كتابه البديع «الغرفة المضاءة»، الصور ب «علاماتها»، بسحرها، وعنفها، وجمالها، وبشاعتها الجميلة... صورتان لا يمكن تجاهلهما، التقطتهما كاميرات الصحافيين في الساعات الأولى من حرب «عمود السحاب» التي تشنها إسرائيل على غزة الصامدة والمقاوِمة. صورتان هما على تناقض تام وإن كانتا لضحيتين، الأولى ضحية حقيقية والثانية «مزيفة». في الصورة الأولى يظهر الطفل الفلسطيني وليد العبدالله، ابن السنتين، راقداً على لوح خشب، ملفوفاً بقماشة بيضاء يضرّجها دمه النقي. كان هذا الطفل في مقدّم الأطفال الذين سقطوا تحت القذائف الإسرائيلية التي لا توفّر المنازل والأحياء الشعبية والمدارس... والأطفال، كما علَّمَنا «فنّ» القصف الإسرائيلي (والبعثي أخيراً)، هم الضحايا الأوائل الذين تحصدهم القذائف والصواريخ. إنهم الضحايا الأسهل أمام وحشية المدافع والطائرات المغيرة. إنهم يسقطون بسهولة، برقّتهم وبراءتهم، وتكفي شظية صغيرة لتمزّق أجسادهم الندية، وتقطع رؤوسهم وأطرافهم. بدا الطفل القتيل كأنه يُزَفّ في عرس ملائكي أو في عيد من أعياد الطفولة. وجهه يشعّ صفاءً وعيناه المغمضتان توحيان بنومه العميق الذي لن يصحو منه. أما الصورة الثانية، فهي تمثّل مجندة إسرائيلية مرتمية على كرسيّ وقد أصابها الهلع جرّاء انطلاق صفارة الإنذار في إحدى البلدات الفلسطينية المحتلة... خافت المجندة كثيراً على ما يبدو في الصورة، ولم تعد قادرة على الوقوف، وراحت تصرخ هولاً، ولم يكن على جندية إسرائيلية «شجاعة» إلاّ أن تهبّ إلى نجدتها، فانحنت فوقها تهدّئها وتخفف من روعها... ولعلها أسرَّت إليها بأنّ صفارة الإنذار لا تعني أن القذائف «العدوة» ستسقط على المكان الذي تحتمي فيه. وجهان متقابلان: وجه المجندة بفمها المفتوح وصراخها الذي يكاد يُسمع في الصورة وعينيها المتقززتين... ووجه الجندية المتمرسة في الحروب وهي تحدق إلى زميلتها بعينين تفيضان حناناً وعطفاً، وقد وضعت يديها على كتفي «الضحية» مانحة إياها القوة والشجاعة. خافت المجندة حقاً منذ أن سمعت الصفارة تدوي في أرجاء البلدة فانهارت، فهي مجنّدة مرهفة، رقيقة القلب والحواشي، لا تعرف القسوة والصلابة، ولعلها لم تشاهد على الشاشات الصغيرة المجازر التي ارتكبتها إسرائيل وترتكبها، بوحشيتها التلمودية وصلافتها. مجنّدة ستكره منذ الآن وبعد هذا العدوان الصوتي، الفلسطينيين الذين طالما أحبتهم (!) وصلّت لهم مثلما يصلّي جنود الاحتلال قبل أن يقصفوا غزة فاتحين كتابهم، علّ القذائف تصيب أهدافها. ستكره هذه المجندة الفلسطينيين الذين يعيثون خراباً في البلاد التي تظنها بلادها، ويهددون أهلها «المسالمين» و«المحبين» و«المهذبين» الذين لا يُؤذون نملة ولا عصفوراً. ستقول في نفسها: «من أين جاءنا هؤلاء الفلسطينيون العرب؟ من الذي يحرّضهم على تعكير صفو حياتنا الهادئة؟»! يا لبؤس هذه المجندة التي انهارت عند سماعها صفارة الإنذار. صورتان هما على تناقض تام: الجزّار يسرق الضحية حقّها في الخوف والرعب، القاتل يستعير قناع المقتول، الجندي الوحشي يصادر براءة الطفولة...أما الطفل القتيل فلم ينبس بكلمة. سقطت قذيفة المجرمين على غرفته وقتلته من دون أن يصرخ ولو صرخة واحدة، مثل كل الأطفال العرب، الذين لم تعد إسرائيل وحدها تقتلهم، بل البعث أيضاً... وقَتْلُ الأطفال هو نفسه أيّاً يكن القاتل. صورتان هما من الصور التي نشاهدها كل يوم، نحن الذين حوّلتنا الحروب كائناتٍ تنظر إلى الصور.