فاز باراك أوباما بالرئاسة مُجدّداً. جاء فوزه قبل أيام من إعادة انتخاب قيادة الحزب والدولة في الصين، بمعنى تجديد القيادة الصينية التي ستدير البلاد في الأعوام المقبلة، وضمنها الولاية الثانية لأوباما. قيادتان جديدتان في بلدين منخرطين في حرب يومية لا تهدأ: الحرب الافتراضية عبر شبكات رقمية تتصدّرها الإنترنت. من دون كبير مجازفة، يمكن القول إن متغيّراً استراتيجياً قوياً ينتظر القيادتين الأميركية والصينية، ربما لم يكن مألوفاً في أزمنة سابقة، إذ باتت الشبكات الرقمية بُعداً حاسماً (مفاتيح النصر والهزيمة) في الاستراتيجية العليا للدولة الحديثة. استطراداً، من يعود الى المؤلّفات الاستراتيجية المرجعية، على غرار مؤلّفات ليدل هارت وكارل فون كلاوتزفتز وهنري بوفر وهنري كيسنجر وصن تزو وآلن إكسلرود وغيرهم، لن يجد شيئاً عن هذا البُعد، ولا حتى ما يمكن القياس عليه بشأنها. لا تضمّ النظرة التقليدية للاستراتيجية (بالأحرى الاستراتيجية العليا)، شيئاً عن كون المُكوّن الرئيسي للاستراتيجية من صنع شركات عملاقة، بمعنى أن البعد الأعلى في الاستراتيجية الدولاتية مخصخص كليّاً، إلا إذا وضعت حكومة ما على غرار ما تفعله الصين نفسها مكان شركة اخطبوطية عملاقة فائقة الاحتكار. في ماضٍ ما زال جارياً، كان شراء دولة لقاذفة استراتيجية مثلاً، هو امتلاك لها. لكن ضربة «ستاكسنت» أثبتت أن هذا الأمر أصبح ماضياً غابراً، إذ سرّبت شركات صناعية شِفرة أجهزة نووية استراتيجية في إيران، فتمكن فيروسا «ستاكسنت» و«فلايم» من الوصول إليها، وتعطيلها، وهو عمل يوازي جهداً استراتيجياً لفيالق عسكرية تقليدية! «بلاك بيري» تواجه البنتاغون قبل بضع سنوات، ثارت أزمة كبرى في شأن شبكات «بلاك بيري» التي تملكها شركة خاصة («ريسرتش إن موشن» Research In Motion)، وتحتفظ فيها بمعلومات (منها الرسائل النصيّة) بمنأى عن الدُول. حينها، قلِق البنتاغون أولاً، لأن كثيرين من طيّاريه يستعملون «بلاك بيري»، ويتبادلون رسائل لا تعلم القيادة عنها شيئاً. أرغمت «بلاك بيري» على كشف شبكتها للحكومة الأميركية. لو تُرجِم هذا الأمر الى لغة الاستراتيجية التقليدية، لتوجب صراع مديد بين أجهزة استخباراتية للحصول على معلومات عن الجيوش وتراتبيتها وضبّاطها ومهماتها وتوقيتاتها وغيرها! لم تستطع أميركا السير بحماية نفسها استراتيجياً، مع وجود شركة لديها معلومات حسّاسة عمن يقودون اسلحتها الضاربة. وغيّرت أميركا علاقاتها وأنماط تعاطيها مع «بلاك بيري». لاحقاً، تكرّر الأمر نفسه في كندا وإسرائيل والهند. وقبل أيام قليلة، أعلن البنتاغون إلغاء عقدٍ حصري مع «بلاك بيري»، بل دعا شركات مُنافِسة، مثل «آبل» لتقديم عروض على الهواتف الذكيّة. وأوضح الليوتنانت دامين بيكارت، وهو ناطق باسم البنتاغون، ان وزارة الدفاع ترغب في التعامل مع شركات الهواتف الذكيّة وفق «الشروط الأمنية الصارمة» نفسها التي كانت مُتّبعة مع «بلاك بيري». ثمة ملاحظتان. أولاً، يشير الأمر الى أن الشبكات الخليوية الرقمية، بأثر اندماجها المتواصل مع الإنترنت، بات لها أهمية استراتيجية توازي الانترنت. وثانياً، لا تستطيع الدولة ذات الاقتصاد الأكثر حريّة المِضيّ حماية نفسها، من دون أن تبسط سيطرتها على أجهزة شخصية تصنعها شركات خاصة! لا شيء في المعطيات الاستراتيجية التقليدية يوازي هذا الأمر، الذي يبدو بوضوح أنه من صنع القرن 21. في سياق مُشابِه، ذكرت صحيفة «حرييت» التركية أن شركة «إلتا سيستمز» الإسرائيلية استأنفت صنع نُظُم إلكترونية لطائرات تجسّس تركية، بعد أن توقّف أثناء الأزمة السياسية بين البلدين. وتُنتِج الشركة الإسرائيلية نُظُماً تتعلّق بالتحكّم والإنذار المبكّر والقطع الدقيقة لطائرات التجسّس المستندة الى تقنيات «بوينغ». ونقلت الصحيفة التركية عن مصادر رسمية قولها ان هذا القرار يفتح الباب أمام إطلاق 4 طائرات «إيه إي دبليو أند سي 737» 737 AEW&C تأخر إنجازها، وكلّفت قرابة 1.6 بليون دولار. وتوقّعت أن ينهي هذا الأمر حظراً إسرائيلياً على تصدير الأجهزة الدفاعية إلى تركيا وُضِعَ قبل سنتين على خلفية الأزمة حول «أسطول الحريّة» في 2010. ويكفي تذكّر أساسيات الدروس المستخلصة من ضربتي الفيروسين الإلكترونيين «ستاكسنت» و «فلايم»، للتنبّه الى أن هذا الأمر يعني وضع طائرات التجسّس التركية المتقدّمة في قبضة التقنيات الإسرائيلية ومعلوماتها! ماذا لو تسرّبت معلومات عن نُظُم الطائرات التركية إلى من يريد صنع فيروس إلكتروني؟ ألا يكفي أن «تصل» شِفرة هذه النُظُم الإلكترونية لتركيب فيروس يشلّها كليّاً، سواء وصلها عبر الشبكات اللاسلكية أم عبر بث الأقمار الإصطناعية؟ يعطي الأمر لمحة اخرى عن مدى تغلغل البُعد الاستراتيجي للمعلوماتية في تركيبة الدول المعاصرة. العودة الى كوسوفو الأرجح أن الحرب العنكبوتية الأولى كانت إبان الصراع في كوسوفو، إذ استخدمت فيها شبكة الإنترنت بكثافة لنقل المعلومات، ونشر الدعاية السياسية، إضافة الى استخدامها في اختراق نُظُم الكومبيوتر الحكومية وتعطيلها. كما استُعمِلَت للتعبير عن معارضة حلف الناتو وحربه على يوغسلافيا السابقة، ولنشر قصص الحياة اليومية للناس. وحفلت الشبكة العنكبوتية بتفاصيل وأسرار الصراع، التي تسرّبت عبر «غرف الدردشة» والمُدوّنات الإلكترونية والمواقع الشخصية وغيرها. في المقابل، تبدو الشبكات الرقمية، خصوصاً الانترنت، ساحة مفتوحة أمام نشاطات أفراد ومجموعات شديدة التنوّع، بداية من حركات ال «هاكرز» الساعية الى نشر حرية المعلومات في الزمن الرقمي، ووصولاً إلى جماعات مدعومة حكومياً بشكل غير مباشر، على غرار مجموعات صينية وروسية، للعمل ضد دول كبرى بهدف الحصول على معلومات استراتيجية عن شركاتها وعلومها وأموالها وشبكات بناها التحتية، ومؤسساتها العلمية، ومقارها الاستخباراتية، ومصانع أسلحتها وغيرها. أين يرتسم الخطّ الفاصل بين حريّة المعلومات، وهو مطلب أساسي لشبيبة القرن 21، وبين نشاطات «ملتبسة» الطابع؟ هل يحق لدولة مثل الولاياتالمتحدة، الدخول الى مواقع وشبكات والحصول على ما تريده من معلومات، فيما يُحرم ال «هاكرز» من الحصول على نُسخ إلكترونية عن كُتب وأغانٍ وموسيقى، بحجة أن هذه الأفعال تمثّل جرائم رقمية؟ هل يُعاقَب شاب لبناني إذا حاول مثلاً، الوصول الى خرائط إسرائيلية غير مُعلنة عن ثروة بلاده في غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، وبعضها ربما كان مِلك شركات خاصة، وليست مُلكاً حكومياً؟ استطراداً، ثمة صراع قوي على المعلومات الفعلية عن الغاز في شرق البحر المتوسّط، ما يعني أن هذه المعلومات هي في صلب الاستراتيجية العليا للدول المعنية بهذه الثروة التي تساهم في صنع مشهد الطاقة حاضراً لكنها تتجه لتكون أساس الطاقة في المستقبل القريب جداً. مُجدداً، يعطي هذا الأمر نموذجاً عن «وقوع» الاستراتيجة العليا للدولة الحديثة في متاهة الشبكات الرقمية. وللحديث صلة. [email protected]