قد يكون في الحملة التي شنها ناشطون ومثقفون وسياسيون على مؤتمر المجلس الوطني الأخير في الدوحة، بعض المبالغات والتحامل والمآرب الشخصية، لكن حدثاً بعينه من أحداث المؤتمر، يستحق أن يناقش ويفكر فيه، و حتى أن يضغط من أجل مراجعته في شكل جدي، ونعني هنا الطريقة التي أصبح بها الأستاذ جورج صبرا رئيساً للمجلس. فالمناضل الذي يجله معظم السوريين، فشل لسبب أو لآخر في الحصول على الأصوات الكافية لدخول دائرة الأمانة العامة، لكنه عاد ليصبح عضواً في تلك الأمانة، ثم ليقفز كما لو بشعوذة مشعوذ ليصبح رأس الهرم في ذلك المجلس الذي لم ينتخب إلى أدنى دوائره القيادية، بطريقة تذكرنا بأمثلة خطيرة في التاريخ السوري ترتب عليها ما لا يُحصى من المآسي للشعب السوري. ففي 1948 أوعز رئيس الجمهورية شكري القوتلي لمشايعيه في مجلس النواب، ليقوموا بحملة لتغيير الدستور السوري، الذي كان يمنع تولي رئاسة الجمهورية لفترتين متتاليتين، وليتمكن القوتلي من الترشح للرئاسة مجدداً، وهو ما حدث فعلاً، وجاء تزامن الحدث مع النكبة ليؤجج موجة من الاحتجاجات في الشارع المدني السوري، أخذ نوعاً ما شكل الاحتجاج على الفساد في حرب الانقاذ، لكنه كان أيضاً احتجاجاً على خرق قانوني وسياسي وأخلاقي، أدى تجاهل القوتلي له إلى انفصاله عن جمهوره الواسع، والتصاقه بثلة من الفاسدين الذين منحهم امتيازات كثيرة، كان آخرها تفويضه قائد الجيش صلاحيات الحاكم العرفي لبسط الأمن مجدداً وقمع التظاهرات التي قامت في دمشق وحلب، وقد نجح حسني الزعيم بمهمته، وهدأت التظاهرات بعد أن قتل عدداً من المتظاهرين في دمشق وحلب في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام، لكن القوتلي فشل في إعادة مارد الفساد إلى القمقم، وانقلب عليه الزعيم في العام التالي، لتدخل البلاد في نفق الانقلابات والحكم العسكري. تكرر مثل ذلك مرات عدة، وكان تعديل الدستور عام 2000 في ربع ساعة ليسمح لبشار الأسد بتولي رئاسة الجمهورية، فرصة لاعتراض السوريين على امتهان دستورهم وإرادتهم، والعودة إلى المسار الديموقراطي، لكنهم فوتوها، وها هم اليوم يدفعون ثمن الإغضاء عنها، وعن تجاوزات أخرى، بدت حينها مقبولة، أو لا سبيل لردها. لكن، لا شيء يمنعهم اليوم من الاعتراض والعمل ضد كل ما من شأنه أن يحرف مسيرتهم نحو الحرية والديموقراطية، وما حدث في الدوحة أخيراً، يجب ألّا يمر من دون أن يكون درساً، ونقطة مرجعية في المسار الديموقراطي، الذي لا يأتي مكتملاً، بل يتشكل ويتطور بالممارسة والتجربة والنقد. وبعيداً من شبهات التدخل الخارجي، أو الجدل الدائر حول مجمل العملية الانتخابية التي حصلت بين أشخاص عينوا أنفسهم بأنفسهم ممثلين للشعب السوري، فإن انتخابات الدوحة انطوت على ثلاثة خروقات على الأقل، للمبادئ والقيم والقواعد الديموقراطية، التي زعم المجلس أنه يتبناها. هناك أولاً خرق قانوني، فقد دخل الأستاذ صبرا الأمانة العامة التي ستنتخب المكتب التنفيذي، تم بعد أن تنازل له عن مقعده أحد الأعضاء المنتخبين من كتلة المجلس الأعلى، التي انتسب إليها صبرا بُعيد إعلان نتائج الانتخابات التي سجل نفسه فيها كمستقل، ويقول أعضاء المجلس عن هذه الآلية قانونية وأقروها في مؤتمرهم ذاك نفسه، وبصرف النظر عن وجود نص من عدمه، إلا أننا لم نسمع يوماً بنظام انتخابات تمثيلية، يجيز تنازل عضو منتخب عن مقعده لآخر، وحتى عتاة الديكتاتوريين لم يجرؤوا على سن هذه القانون. إن احترام القانون، ورفعه إلى مستوى السيادة، هو الأساس الذي تقام عليه المنظومة الديموقراطية برمتها، فهو سند المواطنة المتساوية، وضمانة تحصيل حق كل فرد بطريقة شرعية، وخرق قانون الانتخابات، سيؤدي إلى خرق قانون السير نزولاً، وخرق الدستور صعوداً. ثانياً، حدث خرق سياسي تمثل في كون الإفراز الذي حصل لرئيس المجلس، وربما لقياداته، لم يأتِ على قاعدة الغالبية السياسية، أو البرنامج الانتخابي، الذي كان مفقوداً تماماً، بل تم وفقاً لمعيار تمييزي كما يبدو، هو كون صبرا مسيحي الوالدين، وإذا ما أضيفت هذه الواقعة إلى واقعة اختيار سلفه عبدالباسط سيدا كونه كردياً، فإننا نجد أنفسنا أمام كيان أو هيئة تسلك مسلكاً أهلياً يعبر عن عجز السياسة في أوساط المعارضة وربما موتها، ويدشن مرحلة خطيرة من المحاصصة الطائفية والعرقية والإثنية، وسيفتح شهية الكثير من ممثلي الجماعات الأخرى لطلب امتيازات مشابهة. وثالث الاختراقات أخلاقي، فقبول المجلس بخرق القانون والمحاصصة، على عكس ما يعلن في كل حين، هو كذب، والشعب السوري لن يصدق بعدها مزاعم المجلس الأخرى، إن التصرف اللاأخلاقي للسياسي يفصم علاقته بالمواطنين، ويضعه في موقع اللاصداقية واللاشرعية. إن تلميحات بعض أعضاء المجلس إلى أن ما حدث تعبير عن انفتاحه، وعن التعايش الديني والقومي بين المكونات السورية، ينظر إليه في الشارع السوري باستخفاف، ويراه البعض أكثر خفة من الدعوة إلى تحديد دين أو قومية رئيس الجمهورية دستورياً، ويراه البعض أخطر من سياسة حماية الأقليات التي ينتهجها النظام، وهي تخرصات وعي سياسي ميكانيكي لا واقعي، نعتقد أن الثورة تجاوزته، فنحن مثلاً لم نسمع الكثير من الاحتجاجات على عدم وصول أي امرأة بالانتخاب إلى الأمانة العامة، بل سمعنا الكثير من الأصوات المناصرة لحقوق المرأة تحذر من اللجوء إلى الكوتا لإحضارها بالإرغام، وتوجهت الدعوة بدلاً من ذلك إلى تعزيز الديموقراطية الاجتماعية. ولأن الرادع الأخلاقي يبقى في الغالب مسألة شخصية، فمن الأفضل بتصورنا أن يبادر الأستاذ صبرا إلى تصحيح مساره الخاص، ومسار المجلس بالطريقة التي يجدها مناسبة، ويضرب مثلاً آخر بعد الذي ضربه الأستاذ غليون عندما تنحى قبل ذلك، فقبول النقد والاعتراف بالخطأ والرجوع عنه، هي قاعدة أخلاقية سياسية، على الساسة الكبار أن يعتنوا بتنميتها وترسيخها. لا تصنع الثورة وحدها نظاماً ديموقراطياً، ولا ضمانة لنمو الممارسة والفكر الديموقراطيين تلقائياً، والمثل التاريخي الذي سقناه في البداية يوضح أنها منظومة متكاملة وسريعة العطب، ويمكن هفوة واحدة أن تودي بها. * كاتب سوري