أنهت قمة «مجموعة العشرين» أعمالها مساء الخميس الماضي، بتجديد ثقتها بالنظام المالي العالمي الذي تعرض لسلسلة أزمات منذ صيف 2008. وكان رئيس وزراء الدولة المضيفة غوردون براون، قد حدد جدول أعمال القمة بأربع قضايا رئيسية تتعلق بإصلاح النظام المالي ودعم الدول الأكثر تهديداً وتنشيط حركة التنمية وانقاذ المصارف المنهارة. وعلى رغم حوافز الانقاذ التي رصدتها ادارة الرئيس السابق جورج بوش والحالي باراك أوباما البالغة 700 بليون دولار، فإن هذه الاجراءات لم تمنع انهيار 46 مصرفاً أميركياً نتيجة فقدان السيولة. وهكذا اكتشف أوباما ان خطة الانعاش الأميركية تتعرض لفقدان الثقة بقدرة الولاياتالمتحدة على تسديد ديونها المستحقة، كما اكتشف ايضاً ان الفائض الصيني هو المصدر الأول لتمويل العجز الأميركي. لذلك اهتم بتوسيع دائرة الحوار مع الرئيس الصيني «هو جينتاو» والوفد المرافق له، خصوصاً بعدما اقترح حاكم البنك المركزي الصيني، اعتماد عملة جديدة للاحتياط الدولي لتحل محل الدولار في إطار منظومة توضع تحت اشراف صندوق النقد الدولي. ثم أيده في هذا الطرح الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف الذي دعا الى ضرورة ايجاد بديل عن الدولار الأميركي كعملة احتياط عالمية، وفي تصوره ان غالبية البلدان تبني احتياطاتها المالية على اساس النقد الاجنبي، خصوصاً الدولار الأميركي، لذلك اقترح زيادة أمانة العملات التي تتكون منها هذه الاحتياطات بطرق مختلفة، منها طريق توسيع قائمة العملات التي يمكن اعتمادها كعملة احتياط، أو طريق انشاء عملة احتياط «فوقية» ليست لها هوية وطنية أو قومية، على ان تصدرها وتطبعها مؤسسات مالية دولية. وكان من الطبيعي ان ينمي هذا الاقتراح قلق الإدارة الأميركية التي شعرت بأن هذا التوجه قد يغري البرازيل ودولاً أخرى بفك عملتها عن الدولار. والمعروف ان انخفاض سعر الدولار سنة 2007 شجع سورية وايران وليبيا على المطالبة بعدم ربط عملتها المحلية بالدولار. ومن المؤكد ان هناك دوافع سياسية تقف وراء هذه المطالبة، لأن ايران وليبيا وفنزويلا تعتقد بأن وقف تسعير النفط بالدولار يضر بمصلحة الولاياتالمتحدة ونفوذها، خصوصاً ان الدولار يؤلف ما نسبته 65 في المئة من مجموع احتياطات البنوك المركزية في العالم. وتقول الصحف الأميركية ان أوباما خشي من اتساع نطاق هذه الدعوة بحيث تستقطب الدول المتأثرة بالأزمة الاقتصادية، والتي تضغط من أجل اصلاح النظام المالي العالمي. وقد ظهر هذا التوجه جلياً من خلال تصاريح المسؤولين في البرازيل وروسيا والهند والصين. وفي البيان الذي أصدرته الدول الأربع قبل اسبوعين، دعوة سافرة للإشراف على المنظمات الدولية الكبرى، ومن بينها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان تسيطر عليهما واشنطن والعواصم الأوروبية. سنة 1999 تأسس منتدى الاستقرار المالي في بال (سويسرا) من ممثلين لمجموعة الدول الصناعية السبع. ثم اتسعت دائرة المنتدى لتضم البرازيل والارجنتين والصين والهند واندونيسيا وكوريا الجنوبية والمكسيك وروسيا والسعودية وجنوب افريقيا وتركيا. وبسبب تحول الاقتصاد العالمي باتجاه آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، أصبحت مجموعة الدول الصناعية الكبرى مضطرة لأن تتودد وتساوم مجموعة العشرين. خلال زيارته لواشنطن مطلع الشهر الماضي، قال الرئيس البرازيلي لويس اناسيو لولا للرئيس الاميركي اوباما ان مسؤولية الأزمة تقع على كاهل الولاياتالمتحدة وأوروبا. اي على كاهل الدول الغنية وبالأخص على كاهل الشعب الانغلوساكسوني من ذوي العيون الزرق والبشرة البيضاء. وفي حديثه الى الصحف كرر لولا رأيه في أسباب تصدع النظام الرأسمالي، وقال ان الأزمة لم تبدأ في أسواق الدول الناشئة وإنما في اسواق الدول الأكثر ثراء. وسبب ذلك حسب تصوره، ان البنوك نسيت دورها الأصلي واصبح القطاع المصرفي اقرب الى نوادي القمار حيث ينتشر المغامرون والمقامرون. لذلك توقع إفلاس نظرية اقتصاد السوق المقدسة «لأن أباطرة وول ستريت نظفوا المصارف والشركات من الأموال. واليوم تسعى الإدارة الأميركية الى سدّ عجزها بنهب احتياطات الدول الناشئة». تشير المعلومات الى سهولة ترميم الثقة المهزوزة بين موسكووواشنطن، وربما كان استعداد الدولتين الى تجديد معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية (ستارت - 1) هو الدافع لإحياء العلاقات الثنائية بين أوباما وميدفيديف. وترى الوزيرة الأميركية هيلاري كلينتون أن محادثات الرئيسين تركزت على ملفات مهمة بينها: الأسلحة الهجومية الاستراتيجية ومنظومة الدفاع المضادة للصواريخ والأمن الأوروبي وايران وافغانستان والأزمة المالية. في حديثه الى هيئة الاذاعة البريطانية، قال الرئيس ميدفيديف، إن الحاجة تدعو قادة الدول الصناعية والناشئة الكبرى العشرين، الى اتخاذ قرارات جوهرية من أجل تعديل الهيكلية المالية العالمية. وفي تعليق نشرته الصحيفة الروسية «غازيتا رو» ما يفسر دعوة ميدفيديف إلى التهدئة، على ضوء التدهور الاقتصادي الخطير والكوارث الاجتماعية التي تهدد ربيع روسيا بالتظاهرات والاحتجاجات. ذلك أن مراكز الرصد ومؤشرات المصارف، نشرت أرقاماً مذهلة عن تراجع الانتاج الصناعي وزيادة العاطلين عن العمل (مليون وستمئة ألف شخص خلال 3 أشهر)، وتراجع دخل الفرد 25 في المئة، وتفاقم التدهور الاقتصادي. وكان من الطبيعي أن ينقلب الاصلاحيون الليبراليون الذين اعتمد عليهم رئيس الوزراء فلاديمير بوتين خلال فترة الازدهار، الى معارضين من الدرجة الأولى. وفي سبيل امتصاص النقمة الشعبية التي يغذيها هذا الفريق، قرر الرئيس ميدفيديف، ترميم العلاقات المضطربة مع الولاياتالمتحدة، تاركاً القضايا السياسية المهمة الى جولة أخرى من المحادثات. محادثات أوباما مع الرئيس الصيني «هو جينتاو» انتهت بقبول دعوة الرئيس الأميركي زيارة الصين خلال الصيف المقبل. وقد حرص غوردن براون على تسريب معلومات مطمئنة حول اجتماع الوفدين الأميركي والصيني، لاقتناعه بأن نجاح قمة لندن يتوقف على تجانس هذين القطبين. والسبب انهما يمثلان أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، وأن تعاونهما يخفف التوتر المتزايد في آسيا، خصوصاً أن تقرير منظمة العمل الدولية رسم صورة قاتمة عن مستقبل آسيا في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية. ذلك أنه أشار الى احتمال إغراق 140 مليون شخص في الفقر وإلقاء 23 مليون شخص اضافي في براثن البطالة والتشرد، لهذه الأسباب وسواها وعد الرئيس الصيني بالتعاون المتواصل من أجل احتواء موجة الانكماش العالمي المقبلة، وتوفير سيولة للاستثمارات ورفع معدل الاستهلاك. المستشارة الالمانية مركل توقعت تأسيس سوق مالية عالمية جديدة بفضل قمة «مجموعة العشرين» على أمل الخروج من أسوأ ركود اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية. وأشادت بحنكة أوباما الذي ألغى كل الخلافات السابقة بين بلاده وأوروبا حول حجم الإنفاق وبرامج تنشيط الاقتصاد وتنظيم الأسواق المالية. والحق ان أوباما كان يميل في محادثاته الى التأني في اتخاذ القرارات، ويمتنع عن التسرع في فرض آرائه ونظرته الى الأمور، ويشاور أعضاء وفده قبل ان يعرض موقفه النهائي. ويذكر اصدقاؤه في الجامعة انه أدار حملته الانتخابية بالطريقة التي أدار فيها مجلة «الشؤون القانونية». فهو يدعو الحاضرين الى المشاركة في الرأي، ثم يعمد الى إلقاء الضوء على القواسم المشتركة بين الآراء المختلفة، ويعيد صوغ اقتراحات الآخرين بلغته الفصيحة. وهكذا نجح بواسطة اسلوبه السلس في جمع عشرين رأياً حول برنامج اصلاح النظام المالي المنهار. وسائل الاعلام في بريطانيا لم تجد لدى الرئيس أوباما وزوجته ميشال، ما يستحق الانتقاد والاعتراض سوى انهما لم يحترما البروتوكول الملوكي ويقدما انحناءة الاحترام والتبجيل كما هو مألوف في البلاط، وقد تعمد بعض الصحف اظهار ميشال وهي تلف ذراعها حول خصر الملكة اليزابيث، كما أظهرت أوباما وهو يضع يده على أكتاف رؤساء الصين وروسيا ومركل وساركوزي. ومن المؤكد أن الأميركيين الذين لم يمارسوا قواعد البروتوكول المحافظ، لا يهدفون من وراء هذا السلوك الى تحقير الآخرين أو التعالي عليهم. وربما تولدت لدى باراك أوباما - اول رئيس اسود يدخل البيت الابيض - مشاعر الغطرسة وعدم الانحناء أمام البيض، منذ قرأ في دفاتر البيت الذي يسكن فيه الآن، أن هناك اثني عشر رئيساً أميركياً كانوا يملكون «عبيداً» وهم في البيت الأبيض. أو عندما قرأت «ميشال» في تاريخ عائلتها أن جد جدها جيم روبنسون، عمل «عبداً» في مزرعة «فراندفيلد» في جورج تاون، وأن أحد أبنائه عمل عبداً في البيت الأبيض. وربما تؤثر أشباح «العبيد» وكوبيسهم المقلقة في «البيت الأبيض» على باراك وميشال، اللذين دخلا الى هذا المكان لتنظيفه من آثار الماضي البغيض! * كاتب وصحافي لبناني