تحلّ قريباً الذكرى المئوية لاستقلال ألبانيا في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 1912عن الحكم العثماني، ولذلك حفلت هذه السنة منذ بدايتها بعشرات المعارض الفنية التي ترتبط بشكل أو بآخر بهذه المناسبة. ومن هذه المعارض التي أثارت اهتمام الجمهور ذلك الذي افتتح في تيرانا في 24 تشرين الأول (أكتوبر) وضمّ 97 صورة نادرة بالألوان عن ألبانيا في خريف 1913 من «متحف ألبرت كان» ، وبالتحديد من مشروعه الرائد في ذلك الوقت لأرشفة ثقافات العالم. وبعد تيرانا سينتقل المعرض إلى المدن الألبانية الأخرى التي دخلت آنذاك ضمن مشروع ألبرت كان الطموح «أرشيفات الكرة الأرضية» Les Archives de la Planete. ألبرت كان مصرفي حقق ثروة كبيرة من عمله ولكنه عُرف عنه اهتمامه بالثقافة ومخالطته لكبار المثقفين في وقته وإنفاقه على العمل الخيري الإنساني. ولد ألبرت كان في أسرة يهودية في مارموتيه (باس رين)-فرنسا وبدأ عمله مبكراً في 1879 في أحد المصارف وتابع في المساء دراساته الجامعية إلى أن تخرج في 1881. كان رئيسه في المصرف هنري برغسن ملهمه وصديقه اللاحق مدى الحياة، وهو ما ساعده على الاختلاط بالوسط الثقافي الفرنسي والأوروبي إذ أصبح صديقاً لكبار المثقفين في وقته مثل النحات أوغسطين رودين والكاتب بول فاليري. وفي غضون ذلك ازدهر عمل ألبرت كان بعد أن أصبح في 1892 من كبار المساهمين في «بنك غودشو» الذي اعتبر من أهم المصارف الأوروبية في ذلك الوقت وبذلك زادت ثروته كثيراً. ومع ازدياد ثروته أخذ ألبرت كان ينفق بسخاء على اهتماماته بالثقافة. واشترى عام 1893 في ضاحية باريس قطعة أرض كبيرة وجعلها حديقة فريدة من نوعها تمثل ثقافة الحدائق في العالم حيث كانت هناك «الحديقة الإنكليزية» و «الحديقة اليابانية». تحولت هذه الحديقة الفريدة إلى ملتقى للمثقفين الفرنسيين والأوروبيين. استمرت هذه الحديقة تقوم بدورها الثقافي حتى ثلاثينات القرن العشرين حين أفلس ألبرت كان نتيجة للانهيار الاقتصادي في 1929، وتحولت إلى حديقة عامة في السنوات الأخيرة من حياته (توفي في 1940 خلال الاحتلال النازي لفرنسا). ولكن مشروع الثقافي الأكبر كان على مستوى العالم وأنفق لأجله الكثير حتى 1931. ففي 1909 ذهب إلى اليابان في عمل مصرفي ولكنه أخذ معه المصور ألفرد دوتوتر وعاد معه بأول مجموعة صور غربية توثق الثقافة اليابانية. حفّزه هذا على التفكير في إطلاق مشروع على مستوى العالم سمّاه «أرشيفات الكرة الأرضية» أو «أرشيفات العالم» وعيّن مديراً له جان برونس ووضع تحت تصرفه فريقاً من المصورين الفوتوغرافيين والمصورين السينمائيين. كان سخياً في إنفاقه وأراد لعمله هذا أن يحقق السبق بفضل تطورين جديدين: الصورة الملونة والصورة المتحركة. خلال 1909-1931 جال مشروع ألبرت كان الطموح في خمسين بلداً من بلاد العالم وجمع ثروة ثقافية: 72 ألف صورة و 183 ألف متر من الصور المتحركة. مثلت هذه الثروة ثقافة تلك البلدان وجمعت الآثار والمعابد والحياة اليومية في المدن والأرياف مع التركيز على البشر الذين يعبرون في أزيائهم وحركاتهم ثقافاتهم المحلية. بعد زيارة اليابان التي كانت الدافع لهذا المشروع جاءت البداية الحقيقية في نهاية صيف 1912 من البلقان الذي كان بمثابة «الحديقة الخلفية» أو غير المعروفة لأوروبا إذ قام مدير المشروع برونس والمصوّر أوغسط ليون بجولة في البلقان عشية اندلاع الحرب البلقانية في تشرين الأول (أكتوبر) 1912 ، وهي ما أكدت حدس ألبرت كان لأرشفة ثقافات العالم قبل تدميرها بالحروب الجديدة التي كانت سمة مميزة لبداية القرن العشرين. وخلال هذه الجولة تجول فريق العمل في البوسنة، ثم في الجبل الأسود وصربيا وكوسوفو ومكدونيا في أيار (مايو) 1913 (أي بعد نهاية الحكم العثماني في كوسوفو ومكدونيا) وفي خريف 1913 وصل فريق العمل إلى ألبانيا ومنها إلى اليونان وبعد ذلك تابع طريقه إلى اليونان وبلاد الشام. بالنسبة للبلقان بالذات كان بداية العمل في لحظة تاريخية انتقالية. فحتى ذلك الحين كان وسط البلقان في الخرائط الأوروبية يدخل ضمن «تركيا الأوروبية» و «الشرق الأدنى»، ولذلك جاءت بداية المشروع لتمثل هذه اللحظة الانتقالية للبلقان من «الشرق الأدنى» إلى «جنوب شرقي أوروبا» مع ما رافق ذلك من تدمير البنية التحتية الثقافية وتهجير البشر حملة الثقافات الموروثة من مكان إلى مكان نتيجة للحروب التي تلاحقت خلال 1912-1918. جاءت الصور ال 97 الخاصة بألبانيا في المعرض لتثبت صحة وبعد نظر ألبرت كان الذي قال مرة في تبريره لهذا المشروع إن الهدف من الصور «أن تقوم بدورها في شكل جيد لكي تثبّت مرة وإلى الأبد كل المجالات والممارسات والأنشطة الإنسانية التي أصبح زوالها المأسوي مسألة وقت فقط». فخلال السنوات القليلة التي أعقبت جولة فريق العمل في ألبانيا وجوارها تغيرت كثيراً صورة المشهد الثقافي بما تمّ تدميره خلال الحربين البلقانيتين الأولى والثانية 1912-193 والحرب العالمية الأولى 1914-1918 وترحيل البشر بشكل جماعي سواء بقوة السلاح أو بقوة القانون (معاهدة لوزان 1923 بين تركيا واليونان). وللأسف جاء الانهيار الاقتصادي في 1929 ليفلس ألبرت كان ويوقف العمل في هذا المشروع. ولكن ما أنجز كان مهماً، بعد أن وضع في خدمة الباحثين والمهتمين منذ 1986 مع افتتاح «متحف ألبرت كان» في طرف الحديقة الفريدة التي أنشأها والتي تمتد على مساحة أربعة هكتارات. هذا المتحف بطابع وطني فرنسي مفتوح للزوار والباحثين الذين يجدون في صوره النادرة مادة غنية لأبحاثهم المختلفة في التاريخ الثقافي للشعوب. وبالاستناد إلى هذه الثروة صدر بعض المؤلفات العامة والمختصة مثل كتاب دافيد أوكوفونا «فجر الصورة الملونة: أرشيفات العالم لألبرت كان» وكتاب الباحث الكندي المتخصص في البلقان روبرت إلسي «ألبانيا وكوسوفا بالألوان: صور من مجموعة ألبرت كان». (وفيها الصورة المرفقة بهذا المقال لصبي ألباني في 1913) ونأمل أن نجد من يهتم ويقيم معرضاً للصور الخاصة ببلاد الشام من مجموعة ألبرت كان وأن يصدر كتاباً من هذه الصور الملونة التي تحمل قيمة تاريخية.