يشترك المصري والعراقي في ظاهرة استذكار عهديهما الملكيين كعصرين ذهبيين تميّزا بالاستقرار والنزوع إلى التقدم وسيادة القيم العصرية الحديثة والحرية الفكرية. لا تجد هذه الظاهرة واسعة الانتشار بين أبناء بلاد الشام أو الجزيرة العربية، فلا يكفي القول إذن بأن بشاعة الحاضر هي التي تدفع هذين الشعبين إلى الحنين النوستالجي هذا. تتحنّط الملكية في العراق ومصر في مذكرات ومسلسلات تزخر بها الصحف والتلفزيون لكنك لا تجد طرفاً سياسياً ذا حظوة شعبية يستقي برامجه من العهدين. وفي المقابل فإن ثمة خيالاً شعبياً يقرن أول العهود الجمهورية في مصر والعراق بكل ما يتمنى المواطن تحقيقه اليوم، أو ما يقارب ذلك. ذلك أن أبناء الفئات التي استفادت من إنجازات النظام الناصري الاجتماعية، وهي إنجازات لا يمكن إغماض العين عنها أياً يكن رأينا بها، يحنّون إلى العهد الأخير أكثر من حنينهم إلى الملكية. ومظهر ذلك هو صور عبد الناصر التي رفعت خلال الثورة المطالبة بالحرية وحجم الأصوات التي نالها المرشح الناصري للرئاسة على رغم أن عهد ناصر كان مفتتح حكم الحزب الواحد وقمع الحريات. وإن كان الحكم الناصري دام ثمانية عشر عاماً، فإن العراقي يستحضر نظاماً دام أقل من خمس سنوات هي فترة حكم عبد الكريم قاسم الذي أطاح بالملكية عام 1958 ليطاح به ويعدم على أيدي قادة انقلاب حزب البعث الأول عام 1963. وعلى رغم قصر تلك الفترة، فإن شخصية وعهد قاسم الزعيم تكاد تتخذ أبعاداً أسطورية في أعين عامة الناس. ثمة فيض لا حصر له من المقالات والأفلام الوثائقية والبرامج والمقابلات تدور حول شخصه وإنجازاته وعهده. في الأكشاك وبسطات الكتب تباع صوره إلى جانب صور محمد باقر الصدر وصادق الصدر اللذين قتلا على يد البعث. ليست الإجراءات المعززة لفك التبعية عن بريطانيا وشركات النفط هي ما يوصل قاسم إلى مرتبة القدّيسين اليوم. فالأحاديث تدور عن نزاهة الرجل الذي لم يتم العثور إلا على بضعة دنانير في حسابه المصرفي بعد مقتله، وعن سياساته غير الطائفية التي وضعت كفاءات مشهود لها في مراكز مرموقة، وعن محاربته للفساد ومحاباته للفقراء. ليس صعباً التعرّف إلى أن تلك الرؤية ليست غير إسقاط على كراهية الناس لنظام ما بعد 2003 الذي أوصل البلد إلى طريق مسدود يكاد أن يلقي به إلى الهاوية: محاصصة طائفية واحتلال العراق للمرتبة الثالثة الدنيا من حيث الدول الأكثر فساداً في العالم وتعطل، بل استحالة، تمرير قوانين ملحّة يتطلع المواطن إلى إقرارها بسبب صراع الكتل والطوائف. لا يهم العراقي إن كان قاسم قائداً تسلّطياً شجّع عبادة الشخص ونفّذ إصلاحاته، وهي هائلة بالفعل، في ظل نظام حكم خاضع للأحكام العرفية قنّنه دستور موقت يحظر نشاط الأحزاب السياسية وتحتكر الحكومة فيه سلطات التشريع والتنفيذ، والحكومة في الواقع كانت شخص قاسم الذي احتفظ طوال فترة حكمه بمنصبي رئيس الوزراء ووزير الدفاع. أما السلطة القضائية فخضعت للتسييس إذ كان لمحكمة الشعب المعنية بالبتّ في التهم السياسية قانون خاص بها تم تشريعه بما يتناسب والأحكام العرفية السائدة. بل إن بعضاً من تلك الخصائص قد تكون ميزة له لا مثلبة عليه في أعين الناس. ووفقاً لعدد من استطلاعات للرأي العام يبرز ما يشبه الإجماع على كراهية الأحزاب والنظر إليها كمؤسسات تتصارع في ما بينها حول تعظيم المكاسب المادية بالتستّر على فساد قادتها وأقربائهم والمحسوبين عليهم وبالسعي لاقتناص عقود الدولة وتأمين الوظائف للأتباع وبالتمرير السريع في هذه المرّة لكل قانون يزيد المخصصات المالية لكبار المسؤولين وأعضاء البرلمان، حتى صار بالوسع اعتبار البرلمان العراقي أقوى مؤسسة نقابية في البلد. ليست هذه الصورة غائبة عن رئيس الوزراء السيد نوري المالكي وأنصاره كما يبدو، بل لعله يستخدمها سلاحاً يستقوي به في مواجهة حلفائه وخصومه على حد سواء. فمنذ الآن ترى محاولة من جانب مؤيديه من معلّقين وصحافيين لإلباسه عباءة قاسمية. يقال إنه يسعى لبناء عراق قوي لولا مشاحنات لا نهاية لها بين الكتل السياسية. إنه يحاول تمرير قانون يخصص سبعة وعشرين بليون دولار لإعمار بنية تحتية متهرئة فيعطّل البرلمان المصادقة عليه. وهو القوي غير الطائفي الذي خاض «صولة الفرسان» لاقتلاع الميليشيات الصدرية من مدينة البصرة عام 2009. وهو الحازم الذي امتلك الجرأة على سوق طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية إلى القضاء متَّهماً بالإرهاب. وأهم من ذلك كله أنه المدافع عن وحدة العراق إذ يتصدّى للنزعات الانفصالية الكردية. وللورقة الكردية أهمية خاصة في مهرجان الاحتفاء بالمالكي. ففي أوساط عرب العراق ثمة حقن دعائي يصوّر القيادة الكردية (بل الأكراد عموماً) كزمر تسعى لحلب الدولة الاتحادية والإفادة من المأزق السياسي الراهن لاقتطاع أكبر ما يمكن من أراضي البلاد وضمّها إلى إقليم كردستان. يجد هذا الحقن أرضيته الخصبة في جهل شبه مطلق للمآسي التي تعرّض لها هذا الشعب وفي ثقافة لا تعترف بمفهوم الحق القومي إلا للعرب فيما الحق القومي لغيرهم خيانة لمصلحة قوى استعمارية تخطط لتجزئة الأمة، وهي أمة عربية بالتعريف، ولتفتيتها. ثمة إغماض للعين عن أن جيلاً كاملاً من الأكراد نشأ جاهلاً باللغة العربية التي كانت شرطاً للحصول على الوظائف والتعلّم في الجامعات. هل أحكم المالكي قبضته وبات في طريقه لترسيخ دكتاتورية ملطّفة؟ داخل التحالف الشيعي الذي يجمع حزب الدعوة بزعامة المالكي مع قوى كانت حتى الأمس القريب تباهي بتفوقها الجماهيري، تعرضت الأخيرة إلى تراجع يتفاوت بين طرف وآخر. فالصدريون فقدوا كثيراً من مصداقيتهم بعد أن دعوا إلى حجب الثقة عن حكومة المالكي ليتراجعوا عن الخطوة بفعل الضغوط الإيرانية. وأهم من ذلك ما يؤكده كثيرون من أن إيران أبلغت حلفاءها بالبحث عن مصادر تمويل بديلة بعد شح مواردها بفعل العقوبات. لن تتعرض تلك القوى إلى الإفلاس بالطبع. فستظل الحوزة الشيعية ممولاً للمجلس الأعلى بقيادة الحكيم، وستظل عقود الدولة تُوزع على الموالين. لكن هذا سيكون ورقة إضافية تعزز موقع المالكي إذ تتولى حكومته دور المقرر، إلى حد ما، لمآل تلك العقود. لقد أعاد نظام ما بعد 2003 إنتاج البنية الريعية التي استند إليها استبداد البعث. فليست الحكومة أكبر مستثمر في الاقتصاد فحسب، بل هي أكبر رب عمل كذلك. وليس هذا الواقع معززاً لرجحان كفة المالكي في مواجهة حلفائه، بل هو سلاحه النافذ في مواجهة خصومه، لا سيما كتلة إياد علاوي التي انشق وينشق عنها دورياً أعداد متزايدة. كأننا نسير باتجاه ديموقراطية على طريقة الروسي بوتين. ديموقراطية تستند إلى برلمان منتخب ينعم فيه بغالبية مريحة، ويخضع لسلطة قضائية صارت تحت إمرته، وقوى أمنية وعسكرية يحكم قبضته عليها، وفوق كل ذلك يتمتع بتأييد أو إذعان من يريدون الخلاص على يد نسخة جديدة من عبد الكريم قاسم. في ظل ثقافة سياسية خرّبتها عقود من الطغيان، لم يفاجئني سخط سائق التاكسي: «لكنه رئيس الوزراء. فلماذا يستأذن القوى الأخرى؟ لو أن قاسم فعل هذا لما صار قائداً عظيماً». * كاتب وأكاديمي عراقي