عن الجنينة الأرضية الزائفة التي طاردت أحلام «ليلى وفارس وشفاعة»، وعن واقع مسكون بالزيف الاجتماعي، والتناقضات الفادحة، وتعرية المسكوت عنه في أنساق اجتماعية تخفي تحت قشرتها الخارجية الساكنة عالماً مسكوناً بالخيبة والإحباط، والكذب السياسي والاجتماعي، تبدو رواية المصرية عزة رشاد «شجرة اللبخ» (الكتب خان) مشغولة بطرح تصور مختلف عن الحياة والعالم. وعن مغادرة عوالم جاهزة، طالما كتبت عن الريف المصري، فقدمته شائهاً، رومانطيقياً وغضّاً في آن، لتكمل ما بدأه ودشّنه كتاب كبار في تعاطيهم الناجع مع القرية المصرية، على غرار ما نرى عند يحيى حقي ويوسف إدريس ومحمد البساطي وغيرهم. فنغادر هنا التصور الماضوي القديم الذي نجده مثلاً في كتابات محمد عبدالحليم عبدالله الرومنطيقية ومن دار معه، والتي تختزل رؤيتها للعالم ببراعة أغنية عبدالوهاب الشهيرة: «ما أحلاها عيشة الفلاح». في «شجرة اللبخ»، لم تكن عيشة الفلاح المعدم المقهور حلوة على الإطلاق. هنا تصبح القرية مكاناً لإرادات متناحرة، وفي ظل عالم تسكنه الميتافيزيقا، وتسيطر عليه الخرافة، والرغبة في تثبيت الأوضاع القائمة. فالسادة سادة حتى في موتهم، ومنهم رضوان البلبيسي؛ الرجل الثري يطير نعشه المحمول على أكتاف رجال القرية التعساء، وتنطلق فكرة تخليده عبر الضريح الذي سيتبرّك به ناس المكان. والمفارقة أن هؤلاء يمثلون نموذجاً للطبقة الاجتماعية المنسحقة والمقموعة والمهمشة، التي عانت من رضوان البلبيسي وطبقته الاجتماعية التي استحوذت على كل شيء في مجتمع يعج بالفقر والإخفاق. إنه استلاب جديد لبشر يعيشون على هامش الوجود الإنساني. ويسرع حسنين الخولي لتدشين فكرة الضريح إبقاءً على مصالحه الخاصة، ومطامعه الرخيصة، وتتواتر الحكايات الريفية عن مآثر «رضوان بك»، وتقواه. وفي اللحظة ذاتها، لا تتذكر زوجته الثانية سعاد سوى مطاردته للنساء والتحرّش بهنّ ليل نهار، بل وسيره عارياً خلف إحداهن ذات مساء. عبر هذه المفارقة تتشكل بنى الرواية، فيبدأ فصلها السردي الأول «سعاد» بعدما سبقه مفتتح يمثل ما يعرف بالتقديمة الدرامية للنص، بحيث يحوي إشارة إلى المكان المركزي في الرواية «درب السوالمة»، و»عزبة رضوان بك البلبيسي»، وبما يعني أننا أمام جزء أصيل من بنية السرد: «ويتفصّد العرق فوق جباه أبناء درب السوالمة، فيما يمسح الولد عتمان وجهه بظهر كفه ويلحق بهم محدقاً في الكتلة البشرية المتحركة بأبخرة العرق المختلط بروائح روث الدواب التي تثير الغثيان، في اللحظة التي ينتبه فيها إلى هتاف الشيخ دياب إمام المسجد: إنما الكرامة في الاستقامة، ويلمح النعش وهو يسبق المشيّعين، فيركض الولد ابن الاثني عشر ربيعاً في جلبابه المشلوح بعدما رأى ما جرى مردداً: النعش طار، تتردد العبارة بسرعة فوق ألسنة النسوة في شوارع وأفنية وحواري القرية، ثم تنزلق الحكايات من بين رذاذ الشهنفة وخيوط المخاط عن نعوش الأسلاف التي طارت». (ص 5). تتخذ الفصول السردية من أسماء الشخوص عناوين داخلية لها، من قبيل:»سعاد/ شفاعة/ فارس/ ابن مبارز/ متولي/ ليلى/ حسنين/ صافيناز/ جميلة/ مدكور»، إضافة إلى فصول أخرى تبدو بوصفها استدراكاً لما فات، وانفتاحاً للرؤية السردية على مدلولات جديدة، ومن ثم تأتي عناوينها على هذا النحو (سعاد 2/ فارس 2/ فارس 3/ شفاعة 2). تبدو الفصول السردية في حال من الجدل الخلَّاق في ما بينها. أحياناً يُدفع بالسرد إلى مساحة جديدة، وأحياناً أخرى نرى رصداً للحدث الروائي ذاته عبر أكثر من زاوية نظر يقدمها شخوص متعددون، فمثلاً حكاية «ليله» الأرمنية وابنتها ليلى، نراها عبر أكثر من منظور في فصول «سعاد/ شفاعة/ ليلى». وفي فصل «شفاعة 2» نجد حضوراً لعوالم خفية في حياة الشخصية الروائية شفاعة، وإشارات إلى منصور العربجي الذي خذلها وهرب، فصنع مأساتها المتجددة. لكنّ ثمة ملاحظة مهمة تتمثل في أنّ خطّ القصّ الرئيسي في الفصول كافة يتمثل في وفاة الحاج رضوان البلبيسي ودفنه وعزائه، وبناء الضريح، ثم نصبح إزاء استخدام بارع ومتواتر لتقنية الاسترجاع، أو وصلاً بعلاقة الشخوص برضوان ذاته كما في فصل «شفاعة». تتعدد التقنيات المستخدمة في «شجرة اللبخ»، ومن بينها التحام كلام الشخوص بخط القص الرئيسي، ثم البناء عليه في ما بعد، على نحو ما نرى في «البنت الخايبة بايرة...» (ص 11). ويبدو توظيف العامية أحياناً، سواء في كلام الشخوص أو في الحوارات في ما بينهم، دالاً ومعبراً، بحيث أضفى قدراً من الواقعية على الحدث الروائي. فالمفارقة حاضرة وبقوة منذ مفتتح الرواية وحتى ختامها، منذ طيران النعش برضوان بك، رجل الملذات التي لا تنتهي، وتذكر زوجته سعاد يوم دعت عليه قائلة: «تعيش مفضوح، وتموت مفضوح» (ص 17). ويصبح الحكي عن الأحداث الفرعية مفجراً لاستحضار الماضي، مثلما نرى في ولادة «فارس/ الابن»، ويبدو هذا المنحى الاستعادي مقروناً بحوادث دالّة «حفلة سبوع المولود مثلاً»، وتتداخل الحكايات الفرعية مع خط الحكاية الأم/ الرئيسة، فنرى شخوصاً مختلفين، مثل ليلى، الفتاة كليلة النظر والتي تزوج أبوها رضوان البلبيسي من أمها الأرمينية، ثم تركهما لواقع هو المجهول عينه. ثمة حضور أيضاً للثقافة الشعبية إن كان عبر الإشارة إلى حضور المعتقد الشعبي، أو مواويل المدّاحين، أو الأغنية الشعبية، وكلها من تفاصيل المكان ومظاهره. بينما تبدو الشخصيات الهامشية ذات زخم خاص في الرواية، وهي موصولة بخط القص الرئيسي، وتساهم في فهم دوافع الشخصية المركزية وعوامل نموها وتطورها، ومثل على ذلك ما تراه «شفاعة» من وجود رجلين خسيسين في حياتها، يجعلانها أقرب إلى حطام امرأة. جاءت الفصول التي حوت ترقيماً إلى جوار اسم الشخصية (سعاد 2) على سبيل المثل، وكأنها إضافة إلى ما كان. وبدت الشخصيات في حاجة إلى فضاء جديد للكشف عن مشاعرهم الداخلية، المرتبكة والمتناقضة في آن، وربما حال سعاد تعبيراً دالاً عن ذلك، خصوصاً أنها تحكي عن رجل أذاقها المُرّ، وتلاعب بأعصابها كل مساء، لكنها لا تزال تحمل قدراً محيراً من الحنين إليه. ربما بدا المختتم حاوياً ترميزاً دالاً، مفاده أن ترميم الواقع لن يجدي، وأنّ ليس ثمة أمل سوى في البناء على نحو جديد. وبعد، تبدو رواية «شجرة اللبخ» مكتوبة على مهل، وبرصانة تُحسب لكاتبتها عزة رشاد، فلا هي تحوي نتوءاً، ولا تزيدات، تدفع من خلالها بمشروعها السردي إلى أفق مختلف، بعد روايتها «ذاكرة التيه»، ومجموعاتها القصصية الثلاث: «أحب نورا. أكره نورهان»، «نصف ضوء»، «بنات أحلامي»، مشغولة بجدل الإنساني والفني، وواعية باشتراطات النوع الأدبي، وقدرته على التجدد.