بعد كل هذه الأشهر من الثورة، ومن القتل والتدمير اللذين تمارسهما السلطة، هل يمكن أن يتحقق حل يبقي السلطة في مكانها؟ هذا سؤال يتردد أحياناً من زاوية تمسك بعض الأطراف الدولية، روسيا خصوصاً، ببقاء بشار الأسد. ويتردد أحياناً أخرى نتيجة الشعور بالإرهاق، وانسداد الأفق، ومن أجل إيقاف التدمير والقتل. روسيا تعود للتأكيد على بقاء الأسد، ويعتبر سيرغي لافروف أن «حمامات الدم» ستستمر «إذا أصرّ شركاؤنا (الغربيون) على موقفهم المطالب برحيل الزعيم الذي لا يحبونه (بشار الأسد)»، بعد أن بحثت في «مرحلة ما بعد الأسد»، والتي يبدو أنها لم تجد بديلاً في السلطة يوافق على التنازلات، السياسية والاقتصادية، التي قدمتها السلطة بعد اندلاع الثورة. فقد حصلت على عقود اقتصادية «هائلة» (كانت معقودة مع تركيا)، وعلى دور أكبر في القاعدة البحرية في طرطوس، وباتت تعتقد أن أي حل ينهي السلطة القائمة سوف يخسرها مصالحها المستجدة، بعد أن كان التطور الليبرالي في سورية منذ بداية القرن الجديد قد أزاحها. فهل يمكن لحل ينطلق من بقاء بشار الأسد أن ينجح؟ الروس يعتبرون أن «الغرب» هو الذي يصرّ على إزاحة الأسد، ويبدو أنهم لا زالوا لم يفهموا ما يجري في سورية، وأن الذي أصرّ ويصرّ على إزاحة السلطة هو الشعب وليس الدول «الغربية» التي يمكن أن تساوم في أيّ لحظة على بقائها. وبالتالي أن الأمر يتعلق بما قرره الشعب وليس الدول «الغربية»، وهو الأمر الذي يؤسس لفهم أن كل حل يجب أن ينطلق من إزاحة هذه السلطة (الرئيس وحاشيته المافياوية)، على رغم أنه ليس بالضرورة أن يشمل كل «السلطة» (أي كل الدولة). حيث هناك إمكانية وضرورة لمشاركة «داخلية» في التغيير ربما تتحقق عبر انقلاب. فليس من الممكن تجاوز «الاستعصاء» القائم إلا عبر كسر بنية السلطة، بتفكك تكوينها. وهو الأمر الذي حاول الروس طرحه كبديل في مرحلة سابقة، لكن يبدو أنهم وجدوا أنْ ليس لديهم القوى في السلطة التي تقوم بذلك، خصوصاً أن الدول المؤثرة في بنية السلطة متعددة، من إيران إلى تركيا إلى فرنسا وأميركا. وأنه من دون توافق هذه الدول ليس من مقدرة على تجاوز السلطة الحالية. لهذا يميل الروس إلى «توافق دولي» على أساس «وثيقة جنيف» التي لا تذكر رحيل الرئيس بل تقول بمرحلة انتقالية بتشارك السلطة والمعارضة. على رغم أنهم تراجعوا عن تصريحات كانت تشير إلى عدم تمسكهم بالرئيس. في كل الأحوال، ليس من حل من دون «إسقاط النظام». فلم نصل إلى أن يخوض الشعب الصراع ضد السلطة بهذه القوة إلا بعد أن حسم أن السلطة لا تصلح من جهة، وأن استمرارها لم يعد مقبولاً لأنه يدمّر الطبقات الشعبية من جهة أخرى. لهذا رفع الشعب شعار، أو هدف، «إسقاط النظام». وبالتالي فهذا هو الحدّ الضروري لتجاوز الوضع القائم، وهو الأمر الذي يمكن أن يقنع بأن ثورة الشعب قد حققت مطلبها. على رغم أن الأمور ستبدو أعقد من ذلك، وهي بالفعل أعقد من ذلك. حيث أن المطلوب هو أكثر من ترحيل رئيس، وإزاحة حاشيته. المطلوب هو تحقيق حلول لمشكلات الشعب، الاقتصادية والسياسية. المطلوب هو إزالة التهميش الذي يطاول ثلاثة أرباع الشعب، وربما أكثر من ذلك. التهميش الاقتصادي، والتهميش السياسي. لكن موازين القوى الراهنة، وغياب الفعل المنظم في الثورة، وعدم وضوح أهدافها (غير هدف إسقاط النظام)، يفرض أن يتحقق حل ينطلق من كسر بنية السلطة، وفتح أفق لمرحلة انتقالية تهيئ لإعادة السياسة لبنية المجتمع. هذا ربما هو «الحد الأدنى» الآن، والذي ليس من إمكانية لنجاح حل من دونه. وهذا الحل لا يتحقق إلا عبر رحيل السلطة الراهنة. لهذا أشير إلى أنه إذا كان الروس يعتبون على الدول «الغربية» أنها تتمسك برحيل بشار الأسد، ويلوحون بأن ذلك سوف يبقي «حمامات الدم»، فإن الموقف الروسي المتمسك ببشار الأسد يقود إلى النتيجة ذاتها، أي إلى بقاء «حمامات الدم»، لأن بقاء السلطة هو الذي يفعل ذلك وأكثر. الروس هنا يتحملون المسؤولية «الجنائية» عما يجري، لأنهم يمدون السلطة بالقدرة العسكرية التي تدمر، وبالدعم السياسي الكامل، ليصبحوا كما أميركا تجاه الدولة الصهيونية، الحماة المطلقون لكل الممارسات البشعة للسلطة. الدول الإمبريالية، وربما بعكس تحليل الروس، لا تريد رحيل الأسد، أو لا يهمها هذا الأمر. وأميركا خصوصاً لا تتمسك بهذا «الشرط» إذا كان الروس يعتبرونه شرطاً، لأنها لا ترى بأن لها مصلحة الآن في التدخل، لهذا تميل إلى «الحلول عبر الحوار». وبالتالي فإن مسألة رحيل السلطة هي النقطة المركزية في صيرورة الثورة، والتي يكون حلها هو مدخل تحقيق التغيير، وتجاوز التدمير والدم، ومن ثم البدء في صيرورة مرحلة الصراع فيها سلمياً في ظل توافق على الدولة المدنية الديموقراطية. ميزان القوى لا يسمح ببقاء السلطة، لكن من دون توقع أن يتحقق انتصار حاسم الآن، بل كما اشرنا لا بد من تفكيك السلطة، وفتح أفق لمرحلة انتقالية. وهذا ما يبدو أن هناك إجماع دولي على رفضه، بالتالي ليس الروس فقط بل أميركا وبعض بلدان أوروبا. هذا إلى الآن على الأقل، على رغم أن شعور هذه الأطراف بعجز السلطة عن الاستمرار في القتل واقتراب سقوطها ربما يدفعها إلى توافق على مرحلة انتقالية مفروضة من الخارج. في كل الحلول التي يمكن أن تطرح يجب أن يكون واضحاً أن رحيل السلطة هو المدخل. ولا شك في أن الشعب سوف يحاسب كل القتلة وعصابات المافيا التي نهبت وقتلت، وداعميها. * كاتب سوري.