«الآخرون يشترطون تنحي الأسد ونحن نتمسك بالحوار معه». هذه خلاصة الموقف الروسي كما شرحها وزير الخارجية سيرغي لافروف إثر محادثاته مع الموفد العربي - الدولي الأخضر الابراهيمي مطلع الاسبوع في موسكو. كان الابراهيمي وصل الى العاصمة الروسية مثقلاً بجراحات هدنته الفاشلة في سورية. هو كان يعرف ان الهدنة مشروع يدخل في باب التمنيات وليس له أي سند واقعي، وترك الالتزام بها، لدى مغادرته دمشق عشية عيد الاضحى، «على همة» الأطراف. كانت الهدنة محاولة حسنة النية في الوقت الضائع، الا ان نيات الارض غير حسابات البيدر. ربما نسي الابراهيمي صاحب التجربة اللبنانية عشية اتفاق الطائف ان النظام السوري استهلكه تفاوضاً، في حينه، على «اعادة تموضعه» في لبنان، وهو اليوم يفاوضه على «بقائه في سورية»، فكم سيكون التفاوض مستحيلاً. لم يتخذ الابراهيمي مما وصل اليه سلفه كوفي انان نقطة انطلاق. ولم يستند الى بيان جنيف الغالي على قلوب محدثيه الروس كمرجعية. اكتفى بالتحويم حول سورية وخرابها متنقلاً من عاصمة الى اخرى املاً ان يفتحها الله في وجهه، لكن، كيف ستفتح والغرب يكرر دعوات التنحي منتقداً المعارضة اكثر من انتقاده النظام، وروسيا تتعهد الاسد دعماً سياسياً وعسكرياً ومالياً الى اقصى الحدود؟. كانت روسيا (قبل ايران ومن دونها) الطرف الاكثر تأثيراً في سورية، فقد ورثت عن الاتحاد السوفياتي علاقات تاريخية مع هذا البلد في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتعليمية والاجتماعية. كما ورثت قاعدة طرطوس البحرية الفريدة من نوعها خارج دول الاتحاد السوفياتي السابق. صحيح ان البحرية الروسية يمكنها الاستفادة من تسهيلات في مالطا وطولون، لكن طرطوس امر آخر تماماً من حيث طبيعة الخدمات التي توفرها ومن حيث الموقع الاستراتيجي في شرق المتوسط. التعاون العسكري هو صلب العلاقة بين البلدين. موسكو تتولى تسليح الجيش السوري منذ نصف قرن تقريباً، وتشرف على تدريبه وإعداد ضباطه، وفي الفترة المديدة التي كان الجيش فيها مقيماً في لبنان كان المفتشون العسكريون الروس يقومون بجولات تفقدية داهمة على نقاطه وآلياته، وهو ما يقومون به بالتأكيد داخل سورية. ولم تتوقف شحنات الاسلحة الروسية عن التدفق الى دمشق، وتبرر موسكو رفضها الحظر والمقاطعة الغربيين المفروضين على النظام السوري بالقول انها تلتزم تنفيذ عقود قديمة. كان يفترض ان تساهم هذه العلاقات المتينة بين البلدين (العسكرية خصوصاً) في ايجاد حلول للازمة التي تعانيها سورية منذ آذار (مارس) 2011، لدى اندلاع الانتفاضة في درعا ضد النظام، الا ان روسيا لم تتحرك لتمارس قدرتها على التأثير، في الجيش تحديداً. الغرب كان عملياً لدى بدء الثورتين التونسية والمصرية. بدا متحفظاً في البداية، بل ميالاً الى الدفاع عن سلطتي زين العابدين بن علي وحسني مبارك، الا انه سرعان ما خرج من التردد الى الانخراط في عملية التغيير معتمداً على نحو خاص على علاقته بالمؤسسة العسكرية في البلدين. وبديهي القول انه لولا الدور الضابط والانتقالي للجيشين التونسي والمصري لكنا اليوم ربما ازاء مشهد في تونس ومصر لا يقل مأسوية عن المشهد في سورية. تجربة ليبيا بدت مختلفة، لكن تمسك الديبلوماسية الروسية برفضها والقول بعدم السماح بتكرارها، لا يعفيها من اخذ التجارب الاخرى في مصر وليبيا وربما اليمن في الاعتبار. فالجيوش في هذه البلدان حلت محل الاحزاب السياسية بسبب القمع المزمن للحياة العامة، وفي لحظات التحول برزت الجيوش «قاطرة» للتغيير بإيحاء من اصحاب القدرة والنفوذ الخارجيين، أي اولئك الذين يتولون التسليح والتدريب ...والتوجيه. لم يلعب الروس في سورية الدور الذي لعبه الغرب في تونس ومصر. انجرفوا في لعبة النظام وتبنوا رؤيته في ان ما يجري ليس انتفاضة تغيير انما مؤامرة تنفذها مجموعات ارهابية. اصبح الروس طرفاً وخسروا فرصة تاريخية في تسهيل التغيير بما يحفظ سورية من الخراب ويحول دون تدمير جيشها وطاقاتها وسكانها. هل هو قصور في النظر ام غباء سياسي يتحكم في الموقف الروسي؟. المسؤولون في موسكو لديهم وجهة نظر كاملة يتمسكون بها وتجد من يهلل لها في طهران وأوساط الممانعة على امتداد الكرة الارضية. خلاصة وجهة النظر هذه عبر عنها وزير الخارجية سيرغي لافروف قبل ايام عندما اعتبر في تصريحات مثيرة للدهشة ان «الربيع العربي» ليس الا نتاجاً لسياسة جورج بوش الابن في «تعميم الديموقراطية في الشرق الاوسط». الثورات العربية هي في التحليل الروسي مؤامرة اميركية ينبغي الوقوف في وجهها وضربها ولو ادى ذلك الى احباط آمال الشعوب وتخريب الاوطان والجيوش كما يجري اليوم في سورية. لا تساهم الديبلوماسية الروسية في الحل السوري بل هي تمنعه، ولا يكفي الحديث عن مؤامرات الآخرين لتغطية مسؤولية الطرف الاقدر على الحركة وفرض الحلول. فموسكو بالنسبة الى دمشق هي واشنطن بالنسبة الى القاهرة. واشنطن عرفت كيف تستبدل خيلها في قلب السباق، اما موسكو فستخرج منه على الارجح دونكيشوتاً يسابق بعيره. * صحافي من أسرة «الحياة»