نأت واشنطن بنفسها نصف خطوة عن «تعبئة» أوروبية- أميركية لدعم حكومة نجيب ميقاتي، بعدما بات لبنان على حافة البركان السوري. وإذ لا ترى فرنسا مبالغة أو تهويلاً في تحذيرها من مساعٍ ل «تفكيك» لبنان، صُفِع الجميع بالتفجير الذي هز البلد واغتال رئيس فرع المعلومات اللواء وسام الحسن، وبَدَتْ الخارجية الأميركية مرتبكةً بعد ساعات على إعلان تمسّكها ببقاء حكومة ميقاتي، لدرء الفراغ. نصف خطوة الى وراء، قد يكون أقرب تفسير الى فهمه هو استدراك الخارجية الأميركية سقوطها في لجّة التناقض، إذ تدعم حكومة لطالما اعتبرت ان «حزب الله» حليف النظام السوري وطهران، يشكل عمادها الأول ويرعاها. لم يتأخر نصف الخطوة ساعات، ولمصلحة فريق 14 آذار الذي تلقى ضربة كبيرة باغتيال الشهيد وسام الحسن، وأدرك أن اللحظة الآن هي استئنافٌ لمسلسل اغتيالات، فيما لبنان مهدد بحممِ البركان السوري. مطلب هذا الفريق استقالة الحكومة التي يحمّلها «مسؤولية أساسية عن تسهيل خطة النظام السوري» ل «استباحة لبنان» بدءاً بتفجير الأشرفية، لم تعد واشنطن تصدّه إذا تأمّن البديل الدستوري الذي يحول دون الفراغ. هي إذاً تتطابق مع إصرار الرئيس ميشال سليمان على عقد جلسة حول طاولة الحوار، لإعداد البديل الحكومي بتوافق الأطراف المعنيين، قبل نعي حكومة ميقاتي الذي شدّ أزره التوافق الأوروبي- الأميركي على منع الفراغ، للحؤول دون انزلاق لبنان إلى ما يسمى الحرب الأهلية في سورية. وإذ يصطف زعيم «جبهة النضال» النائب وليد جنبلاط مع الرئيس سليمان، رافضاً «المغامرات»، ويصرّ تيار «المستقبل» على أولوية استقالة الحكومة قبل الحوار، ويتمسك «حزب الله» ب «حكومة اللحظة المناسبة»، لا يبقى خيار لفريق «14 آذار» سوى نسخة معدّلة من المقاطعة التي فرضها معسكر «8 آذار» على حكومة الرئيس السابق فؤاد السنيورة. مع ذلك، فالفارق كبير، ولم تعد لدى «تيار المستقبل» وحلفائه خيارات سوى المقاطعة السلمية للحكومة، والاعتصامات الرمزية التي لن تبدّل وحدها تمسك ميقاتي بالبقاء في السراي منعاً ل «الفراغ». والمأزق هو بعد انكشاف لبنان أمنياً كما أثبتت جريمة اغتيال اللواء وسام الحسن: أيهما اولاً، الحوار أو الحكومة «الحيادية»؟ وسيستمر المأزق، خصوصاً ان لدى قوى «14 آذار» ما يكفي من الأسباب لنفضِ يدها من جدوى حوار تعتبر أن الطرف الآخر يستخدمه غطاءً لتمرير الوقت، ووضعها دائماً امام معضلة التعايش مع سكّين الأمر الواقع. وصحيح أن ميقاتي قادر على التعايش مع خِيَم المعارضة أمام منزله، والاعتصام السلمي أمام السراي الحكومي، لكن الصحيح أيضاً أن تعطيل درس قانون الانتخابات في البرلمان، نتيجة عدم حضور كتلة «المستقبل» اجتماعات اللجان النيابية، لن يكون مواتياً لحسابات «8 آذار» ولا لبيدرها في تمرير قانون يلائمها. والأهم، قبل شهور قد تكون مديدة، على وقع أحداث سورية، والقلق من تمدُّد «العدوى»، هو السؤال عما اذا كان التراجع الأميركي عن الدعم الكامل لبقاء حكومة ميقاتي، صدى لاستياء الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري من «نصائح بعضهم». ... والأكثر أهمية هو أن اعتدال فريق «14 آذار» وعدم تخليه عن النهج السلمي، قد يقابلهما ترعرع الطابور الخامس الذي كان يطلق رصاص القنص على الجيش في بيروت، إثر نكبة الأشرفية بالتفجير، وهزّة انكشاف لبنان أمنياً... وما يردده بعضهم عن رفض إخضاع فريق، ومقاومة استهداف طائفة، إذ تتعامل معه المعارضة بأضعف الإيمان، أي برفع الصوت والمقاطعة السلمية، يلتقطه طابور الفتنة ذريعة، لاقتياد لبنان بضع خطوات إضافية... الى البركان السوري. وإن لم يكن اللبنانيون في حاجة إلى جرس إنذار، بعد كل الذي حصل منذ آذار (مارس) 2011، فمأساة اللبناني إيهاب العزي الذي قطعوا أصابعه بسيف، تحت ستار أيام الغضب، شاهد على استحضار كل بشاعات الفتنة، واستحضار قندهار «طالبان» إلى بيروت. فهل يصحُّ بعدُ التساؤل عمن يسعى الى «تفكيك» لبنان، أو إلحاقه بفتنة المنطقة، بإطلاق عجلة آلة القتل مجدداً، وغرائز الثأر الأعمى، أم مازال هناك حيز للرهان على عقلانية لدى «8 آذار»؟ أيّ لحظة «مناسبة» لالتقاط فرصة قد تكون الأخيرة؟ حِمَمُ الفتنة لا تميِّز بين الحكومات ولا الطوائف.