«نقدياً» وبنحو عام، لا يمكن القبول بهذا العنوان على الإطلاق. إذ لا يُتصور أن «يجتمع سيفان في غمد واحد» كما يقول المثل التراثي السلطاني. أنْ يجتمع داخل مثقف «سيف اليسارية»، وفي الوقت نفسه والشخص «سيف الطائفية»، فهذا لا يمكن تخيله، لا معرفياً ولا حتى أيديولوجياً. لكن في المشرق العربي، وفي سورية تحديداً، يحدث هذا. فلا يبدو أنّ «يسارية» كثير من مثقفي سورية قد حالت دون صعود الطائفية، سواء وسط الشارع أم داخل كونتوناتهم اليسارية، والذين سبقت طائفيتهم (عند البعض) حتى طائفية الشارع. سورياً، ربما لم يعد من عجائب الفكر النقدي في هذا البلد الإشارة إلى مثقف ما، أنه يحمل هويتين، مرجعيتين، كلٌّ منهما تقف، من الناحية النقدية، ضد الأخرى: صحيح أنه يساري إلا أنه في نهاية المطاف ينتمي إلى هذه الطائفة أو تلك. إنّ بعضاً من هؤلاء اليساريين الذين كانوا في السابق قبل حدث الانتفاضة يتنكّرون حتى في ذكر أسماء الطوائف، أصبحوا اليوم أنفسهم لا يشيرون إلى بعضهم بعضاً إلا وفق انتماءاتهم الطائفية. هذه مفارقة في مسار الثقافة السورية. لا بل غدا البُعد أو القُرب من النظام يُقاس بمسطرة الولاء والطائفية. المسألة الأخلاقية عند هؤلاء اليساريين مؤجلة في هذا السياق! وذلك، على الأقل، حيال حمام الدم الذي يسيل. لنا أنْ نتخيل كم أنّ الإشكال الطائفي شديد وصلب عند هذا النمط من المثقفين اليساريين حينما يسقط عندهم كل اعتبار أخلاقي، فتتعرى الإيديولوجيات والذوات الدفينة داخل هياكل طائفياتهم؛ حتى تحوّل النظر إلى تقويم الأوضاع السورية، لا وفقاً لمستقبل الوطن السوري ككل، بل وفقاً وبمنظور عيون الطوائف ومستقبلها منفردة. لقد أصبح «مفهوماً»، بنحو عام، لماذا يطالب ذلك المثقف اليساري ويؤيد سقوط الأنظمة الديكتاتورية العربية حتى آخر شبر منها، ولماذا ذلك المثقف اليساري «الآخر» (عدا استثناءات قليلة) يتلعثم بمقولة الإسقاط، ولا يتمنى ولا يريد من داخل «أعماقه» ذلك، ويبرر لنفسه بالخوف من الأصوليين (ليس غريباً أنّ هذا النمط هم أكثر من يتابع مسرحيات العرعور، لكي يبرر لنفسه خوفه). لقد غدا مفهوماً كذلك حتى في التأمل قليلاً في شكل التنظيمات والتشكيلات السياسية والثقافية التي تتفرخ كل يوم (تحالفات؟)، وذلك بالنظر إلى الانتماءات الطائفية لأصحابها. من هنا ملاحظة التأزم الهوياتي داخل أصوات يسارية تطالب بمرجعية «سنية» واحدة تشمل السنّة والأقليات، (ربما بديلاً من المرجعيات القومية؟). هذا الكلام يصدر عن أصوات معروف عن أصحابها أنهم منضوون في «السلك» الماركسي. إنّ أسئلةً من قبيل: أين الإشكال، في طائفية هؤلاء أم في يساريتهم؟ هل العطل في اليسارية أم في فهم اليساريين لها؟... الخ، هي أسئلة دعونا نصفها بأنها أسئلة «تبسيطية»، تقترب من الذهنية والحال العقلية للرجل الإصلاحي (؟) محمد عبده، حينما أعلن جملته الشهيرة بأنه وجد في فرنسا إسلاماً بلا مسلمين، بينما في بلاده المصرية والعربية لم يجد سوى مسلمين بلا إسلام. هذا الرجل هو نفسه، قد اتّهم كذلك (مع محمد رشيد رضا)، في تفسير «المنار»، مجتمعاته العربية والإسلامية ب «الجاهلية»، وذلك قبل سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، الأصوليين الكبيرين. هناك إشكال، حقيقة، يقف وراء الإيديولوجيات وتبنيها، أو بالأحرى تبني قشورها، ينطبق على حال كثير من مناحي الثقافة العربية، وقد ظهر اليوم في سورية بأبشع صوره مجبولاً بالحس الطائفي. إنه إشكال يرتبط بالأنماط الذهنية الكلانية من جهة، وبعقدة الهوية والانتماء الطائفي والقبلي، هذه العقدة المتوارثة عربياً، من جهة أخرى (في اليمن السعيد اليوم كذلك، يريدون مجابهة إيران وطائفيتها بسلاح/ شعار يفصح عن نفسه: «القبيلة بناء وحضارة»! وقد رفعه اجتماع القبائل أخيراً). إنّ تأملاً في سلوك يساريٍّ سوري ما، كان في السابق يستنكر على حسن نصر الله طائفيّةَ مقاومته ودينيّتها، واليوم نجد هذا اليساري نفسه يقف مع صفه «الممانع»، يُظهر لنا إشكال تشوه تلك الذات المثقفة طائفياً. إنّ العكس بإمكاننا ملاحظته كذلك عن يساريين يعارضون حسن نصر الله اليوم، لكنهم رفعوا صوره في السابق، وبخاصة في أيام اشتداد المقاومة العراقية وحرب 2006 على «حزب الله». في كلتا الحالتين نحن أمام ميدان أصولي، أمام تأزم هوياتي، لم يستطع المثقف السوري حلّه. هل يذكرنا هذا التأزم بذلك الشيوعي المهرّج: شيوعي في البرلمان، إسلامي في البيت!؟ نعم، هذا السوري يساري، لكنه لم يكتشف ذاته الطائفية إلا في ظل الأزمة السورية التي وضعت إيديولوجيته اليسارية على المحكّ: «السنّي اليساري» لم يكتشف أنه من «الأغلبية» إلا في هذا الوقت، بينما «الأقلوي اليساري» لم يكتشف أنه يعاني «أزمة أقلوية» إلا حينما فتحت الأزمة السورية «الجروح الدموية» العميقة في التاريخ العربي. إنها جروح ورثها مخيال هؤلاء اليساريين؛ فلم تشفع يساريتهم ولا لماركس أن يخلصهم منها، مع التأكيد أنّ ماركس لا ذنب له. إلا أن من المهم التمعن في هذه الهياكل الإيديولوجية الكونتونية التوتاليتارية التي نراها اليوم تتصدع وتنكص إلى ما وراء الروح القبلية للطائفية، عارية من أي بعد أخلاقي. وأكثر من ذلك، إنّ الصورة التي يُقدّم بها اليساري السوري نفسه بعودته القهقرى إلى جلْده الطبيعي الذي خرج منه، يدلل على أزمة الوعي بالنظر إلى ذاته والعالم من حوله. ما لممكن توقعه من يساريّ سوري ينظر إلى شعبه السوري بأنه يقوم بثورة طائفية؟ كيف يُقوّم هذا اليساري إذاً ذاته المثقفة؟ وفق أي منظور يُقوّم العالم إذا كان ينظر إلى شعبه هكذا؟ إنّ أجوبة هذه الأسئلة، بغض النظر عن غياب الحس الأخلاقي، رهن برصد المكونات المتأزمة لهوية هذا اليساري: أزمة الهوية بوعيه لوجوده من جهة، وأزمة هويته اليسارية ثقافياً من جهة أخرى. * كاتب سوري