ليست العبادة مجرد أمر يخلو من الحكمة، وليست الحكمة مجرد إدراكات عقلية وتعليلات لفظية، بل هي إضافة إلى ذلك آفاق نفسية وفتوحات روحانية تتمثل في فواتح الجلال وفوائح الجمال، عطاءات وتجليات تتسامى بها النفس وتعرج بها الروح... والحج في الإسلام، كأحد أركانه الخمسة، يمتلئ بإثارات وإشارات ورمزيات روحانية في تأريخيته وتشريعاته الأحكامية وطقوسه التعبدية، ما يجعل الحاج في حال السفر ليغادر الزمان، ويغادر المكان، أي أنه في وجود جديد وحال سمائية معراجية تجاوزت المحدود إلى اللامحدود، وتجاوزت به المنتهي إلى اللامنتهي، ونقلته إلى حال ابتداء جديد. ففي البخاري ومسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، إنها لحظة الولادة يخرج بها من الظلمة إلى النور (وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ). إن المعرفة النسكية للحج تتحول بالوعي الروحاني إلى إحساس، وما يلبث هذا الإحساس أن يتحول إلى حال، بل أحوال من الشعور الوجودي الكبير. لقد أصبح العلم اليوم يناقش الحال الروحانية وفق دراسات واستنتاجات علمية يتجاوز بها الدروشة الوهمية، ففي بحث ماتع للدكتور عمرو شريف في كتابه «ثم صار المخ عقلاً»، يشير إلى أن عملية تصوير المخ أثناء مراحل الإشراق الروحي تفيد أن في قشرة مخ الإنسان أربع مناطق للتربيط، وهي: التربيط البصري، والتربيط المفاهيمي اللفظي، والتربيط التشكيلي، والتربيط التنبيهي، وأن منطقة تربيط التشكيل تستقبل المدخلات الحسية، وقد أظهر تصوير المخ أن منطقة التشكيل تكون في الحال الطبيعية عالية النشاط، إذ تستقبل مدخلات ثرية من مراكز الإحساس، لكنها في حال العباد يظهر فيها سكون واضح في النشاط، ما يجعلها من خلال هذا السكون تترقى في معارج الصعود، ولمزيد من الوعي فإنني أنصح بقراءة الكتاب. إن الحاج حتى يكون روحانياً تتسامى ذاته من خلال استعدادات مهاهيمية وأخرى سلوكية باطنية وخارجية، فيدرك هذا الحاج أن أحكام الحج وشعائره تحمل رموزاً وإشارات تتجاوز مظهرية الفهم إلى عمق المعنى، فهو يعي ثلاثية النص القرآني (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)، الله والناس والحج، وهو يجتاز كل الحجب ليقرأ (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ)، فيقوم المقام الإبراهيمي ويفهم معنى العبودية والطاعة، ويدرك معنى التضحية. ويشارك الأنبياء في بناء البيت العتيق والكعبة المشرفة بالطواف حولها، ليترجم بعضاً من معاني الحب الإلهي في جو من الأمن الداخلي (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)، وهكذا في قراءة نورانية مستمرة لآيات وأحاديث الحج. كم هو جميل أن نضيف إلى فهم فتاوى الحج وأحكامه، وعياً بمقاصده وغاياته، وشعوراً بأنواره وتجلياته، وقراءة لرموزه وإشاراته، ليعود الحاج متحللاً من إحرام ملابسه، ويبقى محرماً ببياض قلبه وسلامة نفسه، وهدوء عقله، ونُبل أخلاقه، وصلاح أعماله، هذه المعاني التي يجب أن تمتزج بفتاوى المفتين، وكلمات الواعظين، وعندها يكون الحج حجاً، تقبل الله من الحجاج حجهم، وأشركنا معهم بنية صالحة ودعوة صادقة. [email protected] @alduhaim