عاد الطفل لتوه إلى معرة النعمان، المدينة الاستراتيجية في شمال غرب سورية التي يسيطر عليها المقاتلون المعارضون، لأن والديه اعتقدا أن الخطر تجاوزها. كان يلهو على دراجته الهوائية حين طمرته تحت الركام قذيفة ألقتها طائرة حربية. ما زال الجزء الأعلى من جسده تحت الركام، ولا تُرى منه سوى رجلين صغيرتين مشوهتين في شكل رهيب وتغطيهما الحجارة، وقدمين مكتنزتين ما زالتا على دواستي دراجة هوائية للأطفال. سحبت من تحت الأنقاض جثة بلا رأس لهذا الطفل، وحملها بأطراف أيديهم أقارب كواهم الحزن. في مواجهة رهبة ما رأوا، كانوا يتضرعون إلى الله. أدي القصف أيضاً إلى تمزيق جسد طفل آخر كان يلهو في الحي نفسه. على بعد أمتار من مكان سقوط القذيفة، تخرج امرأة متألمة من نافذة منزلها الواقع في الطبقة الأرضية. هي مصابة بدوار وما زالت في ملابس النوم، لكن نجاتها من الغارة أعجوبة في ذاتها. هوى المبنى كقصر من أوراق اللعب، لكن صالون منزلها صمد. أخذت هذه الغارة المفاجئة على حين غرة، عدداً قليلا من السكان الذين ما زالوا في معرة النعمان التي هجرها غالبية قاطنيها ال 125 ألفا بسبب الغارات المتكررة التي تتعرض لها المدينة وأطرافها منذ سيطرة المقاتلين المعارضين عليها في 9 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري. ووقعت المجزرة أول من امس في جنوب غرب المدينة الذي بقي نسبياً في منأى عن القصف. وقد دفع هذا الاعتقاد الخاطئ أهل الطفل الذين لجأوا إلى بلدة كفرنبل القريبة منذ عشرة أيام، للعودة إلى معرة النعمان الأربعاء. دمرت القذائف في شكل كامل مبنى من أربعة طبقات، في حين تسببت بدمار جزئي في مبنى مجاور ومسجد لجأت إليه نساء وأطفال، معتقدين انهم سيتمتعون بالأمان في دار العبادة هذه. وأدت هذه الغارات إلى حصيلة دموية: 44 قتيلاً من بينهم 23 طفلاً، بحسب ما أفاد المسعفون. وفي أروقة مستشفى ميداني أقيم في إحدى مدارس المدينة، رأى صحافي «فرانس برس» 32 جثة بينهما ستة لأطفال وضعت داخل أكفان بيضاء، إضافة إلى أكياس من البلاستيك كتب عليها «أشلاء». وأضاف طبيب يعمل في المستشفى: «لم ينج من الغارة حتى الآن سوى ثلاثة أشخاص، بينهم طفل في الثانية من عمره، بقي على قيد الحياة بين ذراعي والده الذي توفي». أما الضحايا الآخرون الذين فقدوا بعض أطرافهم، فانتشلوا من تحت الأنقاض ووضعوا فوق أغطية على الأرض، قبل أن ينقلوا في شاحنات «بيك آب» صغيرة.ا وأسند السكان عدداً من الجرحى المضرجة وجوهم بالدماء من اكتافهم، ونقلوهم إلى مستشفى مجاور أُقيم في الطبقة السفلية لأحد المباني الرسمية في الحي. وباتت هذه المنشأة الطارئة التي تضم نحو 12 طبيبا و20 سريراً وغرفتي عمليات ميدانيتين، هدفاً منتظماً للقصف المدفعي والغارات الجوية التي تنفذها طائرات النظام. وكانت طائرات حربية مقاتلة حلقت فوق معرة النعمان طوال فترة ما قبل الظهر، منفذة طلعات على علو منخفض لإلقاء عشرة قذائف على الأقل على المدينة وأطرافها الشرقية، حيث أطلق المقاتلون المعارضون أول من امس هجوماً حاسماً عليه بعد أيام من حصار هذا المعسكر الأكبر في المنطقة والذي ما زال تحت سيطرة القوات النظامية. وسيطر المقاتلون المعارضون على مدينة معرة النعمان الاستراتيجية في محافظة إدلب، إضافة إلى جزء من الطريق السريع بين دمشق وحلب (شمال) بالقرب منها، مما مكنهم من إعاقة إمدادات القوات النظامية.