تحوّل مهرجان الجواهريّ الشعريّ في دورته التاسعة إلى مناسبةٍ لامتحان قدرة مثقّفين عراقيّين على الإفادة من «الأنشطة» السنوية، وتحريرها من سجن الدعاية، وطابع المنابر. المهرجان الذي حملت دورته (تشرين الأول - أكتوبر 2012) اسم الشاعر الراحل عبداللطيف بندر أوغلو، وعلى مدار ثلاثة أيام، شهد قراءات شعريّة بدأت بمنصة «المسرح الوطني»، في حين حاول الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وهو منظم المهرجان، إضفاء الحيوية على البرنامج فنقل القراءات إلى مراسي نهر دجلة عند «الأعظمية» و «الجادرية». بيد أن جلسات نقد ودراسات استقرت عند مركز الاتحاد، وقاعات ثقافية في شارع المتنبي. يعتقد الاتحاد أن دورة هذا العام، جاءت متميزةً من حيث المشاركة، وتنوع الجلسات، على رغم أن جملة ملاحظات سجّلت على هامش العروض تركز جُلُّها على غياب المثقف العربي ونوعية النصوص المختارة، والتنظيم الكلاسيكي الذي طغى على أجواء الشعر. الوزارة والاتحاد في منصة المسرح الوطني كان وكيل وزارة الثقافة يفتتح المهرجان، وبعد جمل تستذكر الجواهريّ وشعره، بدأ بسرد أرقام مبالغ قدمتها الوزارة إلى اتحاد الأدباء: «هذا العام قدمنا 40 مليون دينار، بعد أن كانتْ مخصصات العام الماضي 25 مليون دينار (...) الاتحاد لم يستلمها لأنه لم يقدم جردةً بالمصروفات». لكن الناطق باسم الاتحاد، الشاعر إبراهيم الخياط، كذّب، في تصريح إلى «الحياة» ما قاله الأتروشي، وقال إن «مخصص عام 2012 لم نستلمه لأن الوزارة طالبتنا بإطفاء مخصصات العام الماضي، والتي تبلغ نحو 25 مليون دينار، وهي الأخرى لم نستلمها (...) كيف نطفئ مالاً لم يدخل حسابنا». ويصل الجدل في شأن الدور الذي تلعبه وزارة الثقافة العراقية حدوداً بعيدة، وهو يتجاوز التمويل إلى التشكيك بنوعية الشغل الذي تقدمه لميدان الثقافة، خصوصاً أن مثقفين عراقيين يتندرون بمفارقة عمل وزير دفاع في «الثقافة». وهنا يعتقدون أن النخبة الحاكمة في البلاد لا يسعها الاهتمام بهذه الحقيبة الوزارية، بل وضعوها أسفل قائمة الأولويات. خارج القاعة التي كان يتحدث فيها الأتروشي عن تمويل الاتحاد، كان شعراء عراقيون مدعوون للمهرجان يتركون القاعة اعتراضاً على ما أسموه «خروج الافتتاح عن النص، وتحوله إلى منبر للدعاية». في العموم تحظى المهرجانات التي ينظمها اتحاد الأدباء بحضور جيد. هذا العام كان متفرداً، من هذه الناحية. ولكن لا يبدو أن الطريقة التي نظمت بها الدورة التاسعة جاءت بجديد. بعض الشعراء يرون أن مهرجاناً مهماً كهذا في حاجة إلى الكثير من التحديث، ولا يخفون نقدهم هذا حين يجدون الأجواء استمراراً للنشاطات السياسية المنبرية. ويعترف إبراهيم الخياط بذلك، ويجد أن الاتحاد في حاجة إلى المزيد من الأفكار الجديدة. ويقول ل «الحياة» إن «المهرجان لا يزال يعمل وفق طرائق عفّ عليها الزمن فالتجربة حديثة العهد به (...) ينقصنا أن نحوله إلى ورش ثقافيّة منتجة». لكن الخيّاط ينتظر أن تكون عودة العراق إلى اتحاد الأدباء العرب فرصة للتعرف إلى ما يمكن فعله في هذا الشأن، كما يقول. مع ذلك هذا ليس طموح شعراء عراقيين، وهم في الغالب من الشباب، إذ لا يثقون بما يمكن الاتحاد العربي فعله، على أساس أن المؤسسة لا تزال أسيرة عقل ثقافي عربي لا ينتمي إلى المنطقة اليوم. اعتقد مشاركون في المهرجان أن الشعر المنتخب للقراءة فيه سيكون، في الأقل، متوافراً على ما يليق بالمناسبة. لكنّ عدداً منهم صُدم بنصوص لعدد من الشعراء لم تكن مؤهلة لهذا الحدث. وكان الاتحاد طلب من فروعه في بغداد والاتحاد ترشيح شعراء يتصدون للقراءة، على أن يتكفل هو بفحصها. وعلى ما يقول الشاعر إبراهيم الخياط فإن هذا «لم يُعمل به على أكمل وجه». عدا النصوص التي تعرضت إلى نقد حاد، فإن مشكلة أخرى تلازم المهرجان منذ دورته الأولى في عام 2004، وهي الفصل بين الأجيال. ولا تبدو فكرة المجايلة لها ما يبررها، ولكن في الأقل يعترض الشباب على ما يزعمون أنها سطوة «شيوخ» على منصة المهرجان كل دورة. وكان الشاعران محمد حسين آل ياسين وموفق محمد استهلا المهرجان بقصيدتين في اليوم الأول، لكن شعراء شباب ساهموا في أوراق نقدية عن المشهد الشعري العراقي بعد عام 2003 في جلسات شهدت حضوراً جيداً. كان واضحاً في البيان الختامي لمهرجان الجواهريّ الهاجس السياسي لدى شعراء العراق، صياغته حرصت على إظهار القلق من أن تواصل النخبة السياسية العراقية شذوذها عن أحلامهم بعراق مدني تراعى فيه الثقافة وحرية التعبير. وكأن البيان، هنا، يوجه رسائل تحذير لقوى وأحزاب حاكمة: «لا رجعة عن الديموقراطية خياراً إلى أيّ من الأنظمة الديكتاتورية والتسلطية والفردية والأوتوقراطية تحت أي لافتة أو مسمى». وطالب البيان ب «فتح ملف الثقافة العراقية الذي ظل مغلقاً بالختم الأسود من قبل أغلب المسؤولين في الدولة العراقية الذين ينظرون إلى الثقافة بمنظار الريبة والتربص والتأثيم، والتكفير أحياناً». عن مديح صدام يبدو أن هامش المهرجان كان أكثر إثارة من متنه، وبينما أقفلت الدورة التاسعة أبوابها، يفتح شعراء عراقيون أبواب «تاريخ» الجواهريّ على صفحات موقع التواصل الاجتماعي. وتجادل عدد منهم في شأن مديح الجواهريّ صدامَ حسين. يكتب الشاعر علي وجيه في صفحته أن «الجواهريّ امتدح في قصيدة (أبا الشِّعرِ تغنَّ بتمّوز)، أحمد حسن البكر، وصدّام حسين حين كان نائباً، وكانتْ هذه القصيدة الأمل الأخير بإطلاق مجموعةٍ من السجناء الشيوعيّين، وهذا ما استدعى رجوع الجواهريّ من براغ التي يحبّها، إلى العراق المُلتهب من أجل محاولة لم تنفع في ما بعد. لكن حفيدة الجواهريّ بان فرات نشرت بياناً على موقعها ترد فيه بالقول: «الجواهريّ هو الشاعر العراقي الوحيد الذي لم يكتب قصيدة مدح في صدام على رغم أنه امتدح كثيرين من الرؤساء والملوك».