لم يتمدد جيمس بوند على أريكة عيادتي للتحليل النفسي، لكنني تابعت أعماله كلها. ومنذ فيلم «دكتور نو» الذائع الصيت في 1962، تحول بوند «دون جوان» (زير نساء) يغلب الإدمان على صلته بالعنف والنساء والسجائر. ويقال في روايات إيان فليمينغ إن بوند يدخن 60 سيجارة في اليوم. وحين أدى شون كونري دوره، غلبت الغواية ولونها على جيمس بوند. فهو نموذج الغاوي الذكوري الذي يقصر مكانة النساء على الأشياء الجنسية. لكن علاقات بوند مع النساء تبدأ بالتحسن مع مرور الوقت، وتصبح أكثر تكافؤأً حين يؤدي روجر مور وغيره شخصية جيمس بوند. وحري بنا الإقرار على ما يدعونا إليه الكاتب أمبرتو إيكو، بأن بوند هو أيقونة. وحين تفكك ألغاز أسطورته، يُلاحظ أن مغامراته تحاكي أسلوب العصور الوسطى: سلسلة من الأفعال المتناسلة والمتسلسلة وفق ثنائيات متضادة بين بوند ورئيسه الذي يكلفه مهمة ما، وبوند والنساء، وبوند والشرير، إلخ... وما لا يقال في سلسلة الأفلام هو أن بوند فقد والديه يوم كان في الحادية عشرة من العمر. فهو يتيم أصابته محنة يوم كان فتى، وهو في سعي متواصل إلى تجاوز آثار هذه الفاجعة الأليمة. ولم تندمل جروح 007. ويربطه هو المصاب برضة نفسانية عميقة الأثر، نوعان من العلاقة بالسلطة: علاقة صدوع بسلطة رئيسه «إم» وقبول تعسفه. فبوند يرتضي سلطة الأب المهيمن، و «إم» هو بمثابة زعيم الدون جوان. ومنذ «غولدن آي» (العين الذهبية) في 1995، شغل منصب رئيس بوند سيدة تؤدي دورها جودي دنش. فصدع بوند كذلك بسلطة هذا الرمز الأمومي النافذ و «الفائق القوة». وفي الانتقال من السلطة الأبوية إلى سلطة الأمومة، تبرز مراحل حداد بوند على والديه. لكن حِداد بوند لا فكاك منه. فهو بمثابة دائرة مغلقة تدور على نفسها. و007 غارق في سيرورة تجاهل مزمنة لجروحه ولو أن قناع الطمأنينة والثقة لا يفارق وجهه. ويبدو أن بوند يتحدى الموت تحدياً متواصلاً ليتفادى الانزلاق إلى الكآبة والانهيار النفسي. وأوجه الشبه بين محاذاة بوند الموت ومشارفته عليه طوال الوقت وبين سلوك المدمنين التقليدي، كبيرة. وحبذا لو ننتقل إلى فاصل في المقالة هذه هزلي أو غير جدي. فذات يوم سئل روجر مور عن نفسانية 007، فقال: «نفسانية جيمس بوند؟ امممم، أحياناً يرتدي بزة بيضاء وأحياناً أخرى بزة سوداء... وإذا سألتني عن الفرق بين أدائي وبين أداء شون كونري جيمس بوند، أقول هو القاتل، وأنا العاشق». * محلل نفسي، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 5/10/2012، اعداد منال نحاس