قد تكون الصدفة وراء التزامن في انفجار ازمة تتعلق بأجهزة الدولة في كل من تونس ومصر. الا ان هذا الانفجار يعبر خير تعبير عن طبيعة العلاقة التي يرغب ان يقيمها الاسلام السياسي، ذو الغالبية الانتخابية، في البلدين مع اجهزة الدولة. ويظهر ايضاً الوظيفة التي يعطيها لهذه الاجهزة. في النظم السياسية التعددية والديموقراطية، وهي الحال التي ما زال كل من «الاخوان المسلمين» في مصر وحركة «النهضة» في تونس يعلن تمسكه بها، تقع اجهزة الدولة خارج الاحزاب. ولا تتغير وظيفتها بتغير الاكثرية الحاكمة. فهي مولجة بخدمة المصلحة العامة العابرة للأحزاب والسياسة ومحايدة ازاء النزاعات الداخلية. ومن هنا ضرورة استقلال السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية عن بعضها البعض، على نحو يمنع الاستغلال السياسي من قبل السلطة. وهذا هو جوهر الدولة المدنية التي يسعى الاسلاميون الى تغيير وظيفتها لأنها في ظنهم «علمانية»، الصفة التي يطلقونها عليها تنفيراً منها. هذه الدولة المدنية هي عكس تلك التي يشيدها النظام الديكتاتوري حيث تتداخل السلطات والاجهزة، وتوضع في خدمة الحاكم وحده، كما كان الامر في ظل زين العابدين في تونس ومبارك في مصر. وجاءت الثورة في كل من البلدين من اجل ان تستعيد الدولة المدنية حقوقها من النظام والحزب الحاكم، ولتعود الى وظيفتها الاساسية. في تونس، لم يتمكن راشد الغنوشي، زعيم «النهضة»، من ضبط رغبته التي أخفاها مراراً بدفاع عن الديموقراطية وحق المشاركة السياسية، في توضيح جوهر موقفه من الدولة الحالية في تونس. فهي لا تزال «علمانية» ويسرح فيها «علمانيون متشددون» ينبغي تطهيرهم، وإن على مراحل. ويتخذ هذا الكلام معناه في اطار عام وآخر خاص. العام هو تحديد الغنوشي ل»الاجهزة المعادية» التي قال انها الجيش والاعلام خصوصاً، حيث لم تتمكن الحركة الاسلامية من فرض نفوذها بعد وتجيير هاتين المؤسستين لمصلحتها. والخاص هو في التوجه الى السلفيين بهذا الكلام الذين من اجل اجتذابهم في الحملة الانتخابية المقبلة، يقدم لهم التنازل الكبير في مفهوم الدولة المدنية. وفي مصر، عمد الرئيس محمد مرسي، ومن ورائه جماعة «الاخوان المسلمين» الى التدخل المباشر في عمل القضاء من اجل امتصاص احتجاجات على الحكم في «موقعة الجمل». واستناداً الى مضمون ما تسرب عما قيل للنائب العام عبدالحميد محمود من اجل اقناعه بقبول قرار مرسي، فان قرار الاقالة جاء لتفادي ضغط شعبي وتظاهرات وتهديد يطاول شخص القاضي. وبغض النظر عن مآل هذه المسألة والجانب القانوني في كيفية الاعتراض على الحكم من قبل المتضررين منه، فإن تدخل مرسي يظهر بلا مواربة سعياً الى مد اليد الى الجهاز القضائي، المستقل دستورياً، واعادة اخضاعه لمصالح الحاكم. كما ان التدخل يظهر ايضا ان التنازل لجمهور غاضب، وهو جمهور انتخابي، سيكون على حساب الفصل بين السلطات، تمهيداً الى اعادة تدوير وظيفتها. لكن الامور لن تستتب بالسهولة التي يتوقعها الاسلام السياسي، سواء في تونس او في مصر. اذ ان القوى المدنية لا تزال تقاوم النزعة الى ضرب الدولة التي تصبو اليها. ففي تونس، مثلاً، اعترض ثلثا اعضاء المجلس الوطني التأسيسي على مواقف الغنوشي، معتبرين انها تهديد للانتقال الديموقراطي في البلاد، وطالبوا بحل الحركة بسبب «تآمرها على مدنية الدولة». كما اصدرت وزارة الدفاع، رداً على اتهام الجيش ب»العلمانية»، بياناً نادراً تشدد فيه على حيادها ازاء جميع الاحزاب، بما فيها «النهضة» ومواقفها. وفي مصر، تضامنت المؤسسة القضائية مع النائب العام المقال وفرضت استمراره في عمله، في الوقت الذي تحول الحشد «الاخواني» تأييداً لمرسي الى مواجهات مع القوى المدنية الاخرى المنتقدة لاداء الرئيس.