ينفتح مخاض الثورة السورية الطويل على أفق نظري ومفهومي يؤسس للعمل والتفكير على أساس مختلف ومغاير، ويطرق بشكل جذري أبواباً أقفلتها مذاهب وأيديولوجيات سابقة احتكرت صناعة الفعل المقاوم وكبَّلته بحبالها العفنة نظرياً والعدمية واقعياً، فتحولت المقاومة على يديها من فعل تحرر وطني إلى فعل تحرر إلهي عابر للأوطان، ومن إرادة شعبية عامة إلى إرادة مذهبية ودينية خاصة وتابعة، ومن تحرير السياسة إلى احتلالها، ومن مقاومة الاحتلال إلى احتلال المقاومة واحتكار القضية. بعد أن احتل أرضنا الصهاينة الغرباء احتلت الأنظمة «الوطنية» الشعوب، واستوطنت أرض حريتها، ثم قضت عبر عقود حكمها الطويلة على مقاومة الاحتلال المركب الذي عانته وتعانيه تلك الشعوب، لتنتج مقاومة على شاكلتها، لا هي صالحة لتحرير الأرض ولا تحرير الإنسان، بل تقوم على الطائفية السياسية واحتكار الفضاء العام وتجميع الثروة والسلطة والسلاح ثم استخدامها في تطويق المجتمع المدني وتركيع البشر واستعبادهم ثم قتلهم باسم المشروع المقاوم. الثورة الشعبية السورية هي في أصلها فعل مقاومة وفي تكوينها عشق الحياة والتضحية للحرية وفي تفاصيلها إرادة قوة استرداد الحقوق. هي مقاومة للظلم والإكراه والاستبداد والفساد، ومقاومة احتلال السلطة للدولة والحزب للمجتمع وكلاهما للفضاء السياسي والإعلامي، ومقاومة التعسُّف والوساطة واحتقار الإنسان وإذلاله، تلك هي المحددات الأساسية لثورة الكرامة وهي الدوافع الأولية لقيامها والمحفزات الأولى لرغبة أهلها بالتغيير والاعتراف وإسقاط النظام. في كل مقاومة إبداع وخلق وإرادة قوة، شرط الحفاظ على جوهرية الفعل وانفتاح الرؤية وليس الانزلاق نحو العماء الأيديولوجي وقناع اليوتوبيا والقداسة الذي يعني الموت والدوران في فراغ العدم، هكذا حصل للماركسية التي ابتدأت فعل مقاومة وتحرير للإنسان وانتهت ديكتاتورية شعبوية وشعبية شاملة، وكاريكاتورات حزبية «شيوعية قيصرية» مثل حال المهزلة البوتينية، والأمر ذاته يصح بخصوص الإسلام الذي انتقل من ثورة اجتماعية وأخلاقية وسياسية منفتحة ليجعله أصحاب الإيديولوجيات الظلامية والإسلام السياسي ديناً مُسيَّراً بالمصالح البدائية لشخصيات تحل نفسها مكان الأنبياء وأحزاب تدعي نطق الوحي والشرائع على لسانها. وهو الحال الذي يمثله حزبٌ يجاهد باسم الله والمقاومة على أرض سورية المقدسة، أو جبهة تدعي النصرة وتقاتل «الكفار» في سورية، باعتداء واضح وصارخ على أهداف الثورة التي يرفضون حتى تسميتها باسمها. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لم يحدث في التاريخ أن اجتمع الإسلامي والشيوعي المتطرف، اليساري واليميني، العنصري والطائفي والقومجي الشوفيني، مثلما اجتمعوا اليوم كأعداء متساوين ضد ثورة الكرامة، بحيث بات من الصحيح أن «لا فرق بين ماركسي أو إسلامي إلا بالثورة»، فبوصلة العقل والفعل بالنسبة لهؤلاء جميعاً بعيدة من أرض الإنسان الحي والمباشر والفعلي، وغارقة في سماء الأيديولوجيا وغيم النظريات المحنَّطة. إن المقاومة هي فعل تحرير ورفض وإرادة تغيير، والإنسان المقاوم هو إنسان حر بالمعنى العقائدي والسياسي والاجتماعي، أما عبيد الدين السياسي والعقائد الأيديولوجية فهم في أحسن أحوالهم عائق بسيط أمام التفوق العسكري الهائل للاحتلال وداعميه، وعائق مركب ومعقد أمام حرية شعوبهم ذاتها، بل هم مطية دائمة لاستمرار الاحتلال من الخارج والديكتاتورية من الداخل في آن واحد، وهو ما بات واضحاً منذ ثمانينيات القرن الماضي، أما النصر الإلهي والوعود الصادقة فلا يعرف كذبها إلا الشهداء أولاً، والاحتلال ثانياً الذي يحتفل معنا بنصرنا الإلهي الموهوم طالما انتصاره ثابت على الأرض ومزاياه الجديدة أكثر مناسبة لطموحاته. الثورة كفعل مقاومة أصيل تعيد صياغة القيمة والمعنى، مثلما تعيد الحياة لفكرة المقاومة الباهتة والجوفاء والميتة التي أنتجتها أنظمة الاستبداد، وهي حركة تحرر وطني بمعنى جديد أيضاً ومفارق للمعنى القديم، فهي تحرر وطني لتحرير الداخل ممن احتله لعقود، بل ممن تولى المهمة عن الاحتلال الخارجي. ولكن ما يعنينا أيضاً في فكرة المقاومة أن معناها النفسي لا يفترق كثيراً أو يختلف عن معانيها الاجتماعية والسياسية، فهي أصلاً ناتج للعجز ووعي له ومحاولة لتجاوزه. وبناء عليه نقول: عندما يصبح نظام كامل نظاماً مستقراً في المقاومة ومستمر في الزمان بها وعليها، فهو نظام عاجز ومشلول ويريد تثبيت العجز والدوام به كاستراتيجية مؤبدة، وهنا مصدر مميز للديكتاتورية، وهذا ما ينطبق على النظام الثوري ونظام الشرعة والشرعية الثورية وأمثلته أصبحت أوضح من أن يشار لها. الثورة هي مقاومة وهي حدٌّ على المقاومة، وعندما يريد النظام السوري ومن لفَّ لفه «العيش في المقاومة» والتكسُّب من امتطائها، يصبح عائقاً وسدَّاً منيعاً أمام حرية الشعب وحاجته لتجاوز عجزه، ويصبح من الحق والواجب إسقاطه. * كاتب سوري